كان فتى شهياً تأكله العين، قوياً في ميعة الشباب، أرسله الوالد الزعيم من ساحة الثورة والزعامة إلى معهد العلم والثقافة، ليربي الفكر الناشئ، والعقل الطري، ويعلم النفس المستكينة سبيل المجد، وطريق الحياة.
سار الفتى يقطع الفيافي والقفار على متن الأفراس العربية إلى حيث الجامعة المغربية (القرويين) بفاس، ليكون طالباً من طلابها، يسكن إلى مدارسها، ويتعيش من هبات أوقافها، ويغمر فكره بهدي علمائها.
قال الراوي: وكان في المدرسة التي حط الفتى رحله بها شيخ زاهد، قالوا: إنه من الإبدال، فكان يقوم بخدمة طلبة العلم هناك، ويتعيش من فتات موائدهم وفضلات مآكلهم. واتفق ذات يوم أن أقام فريق من الطلبة مأدبة لعموم من بالمدرسة من الطلاب، فكان من الذوق أن يتصدر الشيخ الوقور مائدتهم، كوالد عطوف أو كخادم أمين.
ونصبت موائد الطعام، فكان الشيخ يتوسط واحدةً منها. وعلى فجأة من القوم أرسل الزاهد بَصرهُ، فما حطه إلا على وجه ذلك الفتى الناعم، وهو ما يزال حديث العهد بهذه المعالم، وأرسلها الشيخ نظرات متعاقبة كأنما كانت شعاعاً كشافاً أرسله إلى مجهول من الغيب ليعرف!
قال الراوي: وأخذ الارتياب يداخل نفوس الحاضرين من الطلاب في أمر الشيخ الزاهد، فتراشفوا بنظرات حادة فيها كثير من الكلام، كان الشيخ البريء يصاب منها في الصميم، ثم قطع هذه الحيرة واحد من أولئك كان له في الشيخ وثوق واعتقاد، إذ صاح به قائلاً: هل من نبأ وراء هذه النظرات يا عماه؟ ورفع الشيخ بصره ببطيء يتفرس في هذا الذي قطع عليه إلهاماً كان يتلقاه من السماء. وقال في شيء من التأفف والبغتة: نعم يا ولدي، أُلهمت الساعة أن هذا الطالب سيكون بعد حين ملكاً على المغرب من أقصاه لأقصاه، وسيؤسس دولة لها سلطان وأعوان، ورايات خافقات!. . .
ضج الطلبة وتصايحوا لهذا الخبر المباغت، وتعالت أصواتهم من هنا ومن هناك يصححون