هبت نسمات الربيع تدفعني إلى الماضي الجميل، فحن الفؤاد إلى مراتع الطفولة، وصبا القلب إلى ملاهي الصبا، ونزعت الروح إلى ملاهي الذكرى، هناك في القرية حيث الربيع الغض يمد سحره الرفاف، فينشر على البر بحرا سندسي الحواشي، مرح الاعطاف، يبسم لهبات النسيم في رقة، ويصافحها في لين، ويعانقها في شوق، حيث الغدير العذب ينساب إلى غير غاية، يترنم بأناشيد الهوى ويشدو بألحان الغرام، وهو يضم بين حبات قلبه صفية الحبيب: شعاع الشمس الذهبي الذي يدفىء حناياه بزفرات الشوق والحنين؛ حيث فيء شجره التوت يتهادى ليهدهد من أنات الثور المعنى ونواح الساقية الشجي؛ حيث أهلي الذين أتشوف إليهم برغم أن شواغل المال قد جرفتهم فجف فيهم الحنان وذوى العطف ونضب الصفاء؛ حيث الفلاح الذي يئن تحت وقرين من ضنى العمل ورقة الحال. . .
وجذبتني نوازع النفس إلى القرية فطرت إليها أستجم من عناء وأتدع من كلال وأهدأ من صخب، فخلت أول شيء لباس المدينة وهو ضيق يرهق الجسم ويحبس الدم ويخنق الحركة، ثم انطلقت وحدي إلى مكان ذي ظل وهدوء، على أجد نفسي وخواطري معا.
وتكبكب الفلاحون يحيون الضيف الذي حل ديارهم على حين فجأة بعد سنوات من نأي كادت تمحو ورته من الذهن، وتمسح سماته من الخاطر، وتطوي تاريخه من الوعي. . . الضعيف الذي نقض عنه - في لمحة واحدة - أثر المدينة فلبس ثوب الفلاح في غير تمنع، واستلقى على ثرى أرضه في غير تحفظ، وأكل طعامه في غسير تفزز، وشرب شرابه في تكمش. ومستنى روعة المكان وروعة الاخلاص المتدفق من أغوار النفوس الطيبة الزكيه التي ترفل في دثارين من الرضا والقناعة؛ فأخذت معهم في حديث راح يتشقق فنونا، وإن فيه العذوبة والذكرى. ومضت ساعة من زمان وأنا أرقب رجلا منهم نفر من الجماعة فانتحي ناحية فما شارك في الحديث ولا هش للمجلس، ولكن ظل في منأى عنا منطويا على نفسه وعليه آثار الأسى وفيه علامات الحزن؛ وتراءى لي كأنه يحمل على عاتقه أعباء السنين العجاف، وراعني أن ينقض السامر ولما أكشف عن طوايا نفسه أو أنقذ