إلى أعماق قلبه، وإني لأعرفه فتى طروب النفس خفيف الحركة قوي العضل. . . أعرفه منذ أن كان أبي رب هذه الارض وصاحب هذا الغيظ وسيد هذا الناس، ومنذ أن كنت أنا صبيا أرفل في عبث الطفولة وحماقة الصبا.
وناديته فلبى وجاء يتوكأ على عصا٠ وقد حطمته السنون فبدا هيكلا يتداعى من وهن وضعف، ثم سألته (ما لك لا تنغمر في الحديث ولا تندفع في السمر ولا تهتز للطرب؟)
فقال (يا بني إن أبناء المدينة لا يفهمون لغة الريف ولا يستمرئون شكوى المظلوم)
قلت (وي كأنك نسيت أنني ابن الريف وربيته، لم تصرفني عنه إلا نوازع العيش ولا تدعني عنه إلا دواعي الوظيفة!)
قال (ولكنك جئت ترفه عن نفسك وللذة الهادئة، وتلتمس السكون والراحة من صخب المدينة، فما كان لي أن أعكر صفو المتعة بشوائب الشكوى، ولا أدنس سعادة المرح بأنات الاسي
قلت (لا بأس عليك! هات حديثك عسى أن أجد لك فرجة من ضيق أو برءاً من سقام)
فقال في صوت شاع في نبراته الاسى وافحم رناته الحزن:(أما قصتي فهي قصة الضعف تعصف به القوة العارمة، قصة الفقر يعبث به الغنى الجارف.
(لعلك، يا بني، لا تذكر يوم أن تركت غيط أبيك إلى ضيعة سعادة البك! لقد فعلت وإنه ليتراءى لي أنني أفر من ضيق إلى سعة ومن شظف إلى خفض. وكنت - إذ ذاك - فتى في الطمع والطموح في وقت معا) ونسيت أن الثراء العريض لا يرقق القلوب القاسية، وأن النعمة السابقة لا تداوى الانفس الشح، وأن المال الوفير لا يلين العقول الجافة؛ ولكنني طرت إلى عزبة البك
(وتقبلني سعادة البك ورجالة بقبول حسن، وتقبلت أنا العمل بشوق وأمل، وانطوت الايام فاذا أنا أقرب الناس إلى قلب البك، يسبغ على من نعمته ويحبوني بفضل رعايته، ثم يقيمني رئيسا على عماله
(ووجدت في عملي الجديد معاني السيطرة والسلطان، وأنا - حينذاك - رجل صقلتني التجارب وشذبتني الحياة، فرحت أبذل غاية الجهد وأستنفذ وسع الطاقة لاكون أهلا لثقة البك، وعشت بين العمال أخا وصديقا وصاحباً، وعشت في الغيط أمينا ومخلصا، وعشت