في اليوم السابع والعشرين من شهر ربيع الأول عام ٣٦٣، والشمس في الغروب، والقمر في المحاق، والمعرّة في همود الكلال، والطبيعة في فتور الكرى، ولد الطفل النبيل الضئيل أحمد أبو العلاء!
كان في ظلام الرحم، وولد في ظلام العشية، ثم عاش في ظلام البصر، وانتهى إلى ظلام القبر! ومن هذا الظلام المتصل نسج القدر حياة أبي العلاء وأنشأ عواطفه، وسود فلسفته، وأبهم عقيدته، وأوحش نفسه!
ومن هذا الظلام أيضاً تفجر النور كله على قلبه وعقله، فكان آية من آيات ربه الكبرى في ذكاء الفهم ولطافة الحس وقوة الحفظ ودقة التخيل. وهو القائل:
سواد العين زار سواد قلبي ... ليتفقا على فهم الأمور
وإذا كان لكل عاهة من عاهات الحس تعويض من قوى الروح، فإن لها كذلك أثراً شديداً في حياة المعُوهِ، ترسم له الطريق وتعين له الغاية. فعاهة أبي العلاء فرضت عليه أن يجعل العلم شغل حياته؛ واختارت له من العلم أنواعه النقلية والنظرية مما تغنى فيه الحافظة وتعين عليه المخيلة، كاللغة والدين والشعر، ووسائلها من الرواية والنحو والصرف والعروض؛ فقضى عمره الأول بين أيدي الشيوخ في الشام وبغداد، أو على مقاعد المكتبات في المساجد والأديرة، يسمع ويعي، ويجمع ويستوعب، حتى لم يدع كلمة في معاجم اللغة وكلام العرب إلا علقها، ولا مسألة من مسائل العلوم الأدبية إلا حذقها. ثم قضى عمره الثاني معتكفاً في داره، يُعسِّل الشهد تعسيل النحل امتلأت بطونها برحيق الزهر المختلف، ويقطر الزلال تقطير المرشح الضخم أفعم جوفه بماء السيل المشوب. ولغلبة الأدب على حافظته لم ينضح فؤاده إلا به؛ وكتبه التي أملاها وهي تربى على المائتين لم تخرج عن فنون الأدب المختلفة. أما علمه بالفلسفة وسائر العلوم فقد كان علم الأديب، يأخذ منها ولا يعطيها، ويشارك فيها ولا يختص بها. وأروع مظاهر النبوغ في ثقافته الأدبية إحاطته باللغة إحاطة المستوعب، حتى كانوا إذا عدوا من رزقوا السعادة في شئ لم يؤته الله غيرهم، عدوا أبا العلاء ممن تفرد بالاطلاع الواسع على لسان العرب. ومن هنا طغى