للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الغريب على نظمه ونثره؛ إذ كان همه مصروفاً إلى تقييد الأوابد اللغوية مما جمع عليه وعاء قلبه. وما كان في نية أبي العلاء أن يكتب لدهماء الناس، إنما كان يكتب لنفسه ولتلاميذه. فهو ينظم ليرتاض، ويؤلف ليسجل، ويملي ليعلم. ومن قوله في مقدمة سقط الزند: (لم أطرق مسامع الرؤساء بالنشيد، ولا مدحت طلباً للثواب، وإنما كان ذلك على معنى الرياضة وامتحان السوس) فإذا كتب للعامة أشرق لفظه وسهل أسلوبه، كما صنع في كتابه (سيف الخطيب)، وهو مجموعة من الخطب المنبرية ألفها على حروف من حروف المعجم، ثم قال: (وتركت الجيم والخاء وما يجري مجراهما، لأن الكلام المقول في الجماعات ينبغي أن يكون سجسجاً سهلاً)

وعاهة أبي العلاء هي التي جذبت إليه العيون وشغلت به الألسن؛ لأن الضرير الذي يجيد النرد والشطرنج، ويدخل في كل باب من أبواب الجد والهزل، ويحفظ من مرة واحدة ما يرد على سمعه مما يفهم وما لا يفهم، عجيبة من العجائب التي يجب أن ترى، وتستحق أن تروى. واكتظاظ مجلسه بالناس سبيل إلى الفضول والتزيد منهم، وإلى مقابلة الحال بالحال وموازنة الحظ بالحظ منه. وأبو العلاء الذي خلق بحكم منبته الكريم عزيز النفس رفيع الهوى ظاهر المزية، كان يستشعر العجز والنقص بما يعلم من انطفاء بصره ودمامة وجهه وضآلة بدنه وقصر قامته، فكان لذلك شديد التيقظ لحركات الجالس وكلمات المتكلم. وربما أساء الظن ببرئ، وتوهم الإساءة من محسن. وهو في طعامه وهندامه وسلامه وقيامه عرضة للخطأ ومظنة للمؤاخذة؛ فكان لا ينفك متزايلاً ضجراً يديم الحذر ويؤثر العزلة

صاحب أبو العلاء الزمان ولا بس الناس وراود السعادة حتى استحار شبابه، فلم تزده الأيام إلا يقيناً بعجزه الطبيعي عن مجاراة الأنداد في سباق الحياة، وعن مرضاة النفس بلذات العيش، وعن منازلة الخصوم بسلاح الإفك، فانقلب إلى داره ناقضاً كفيه من دهر لا رجيَّة له فيه، وعالم لا صديق له به، ونعيم لا نصيب له منه. وساعد على إمضائه نية الاعتزال فجيعته في أمه وهي الظل الذي يأوي إليه، والسبب الذي يتعلق به؛ فزهد في الدنيا وصدف عن الناس، وأخذ نفسه بالخشونة والحرمان خمساً وأربعين سنة لا يلبس غير القطن، ولا يفترش غير اللبد، ولا يأكل غير العدس، ولا يتفكه إلا بالتين. وهو في أثناء ذلك الدهر الطويل منطو على نفسه، متحامل على ذهنه، يحوك القوافي ويصوغ الأسجاع في التسبيح

<<  <  ج:
ص:  >  >>