أقيمت في ردهة المجمع العلمي العربي في دمشق، من نحو عشرين سنة، حفلة لتكريم حافظ إبراهيم حضرتها أنا وأخي سعيد الأفغاني، وكنا يومئذ في مطلع الشباب نقصد هذه الحفلات لننقد الخطباء، ونبتغي لهم المعايب، فمن لم نعب فكرته عبنا أسلوبه، ومن لم ننقص إنشاءه انتقصنا إلقاءه، وخطب كثيرون في الحفلة، وقال فيها حافظ بيتيه المعروفين:
شكرت جميل صنعكم بدمعي ... ودمع العين مقياس الشعور
لأول مرة قد ذاق جفني ... على ما ذاقه طعم السرور
ولم يسلم من ألسنتنا. . . . وكان فيمن خطب رجل قصير القامة، عظيم الهامة (جداً) ابيض الشعر، ألقى قصيدة لا أزال أذكر أن مطلعها، كان:
ليالي التصابي قد جفاني حبورها ... ولمّتي السوداء أسفر نورها
ومن لي بإنكار الحقيقة بعد ما ... تجّلى على وجهي وفودي نذيرها
تذكرت أيام السرور التي مضت ... فياليت شعري هل يعود سرورها
لدن لي مع الأصحاب سهم مسدّد ... وحظي من ريم الكناس غريرها
أسفت على عهد الشباب ولم تعد ... تثير فؤادي مقلة وفتورها
وأدتني الأيام من هوّة الونى ... فاصبح مني قاب قوس شفيرها
وكادت صروف الدهر تطوى صحائفي ... وهل بعد هذه الطي يرجى نشورها
إلى أن. . . . .
وتخلص إلى لقاء حافظ، وقال إنه جدد له عهد الشباب. . . وهو قصيدة طويلة لا أرويها وكان صوته قويا على انخفاض مدويا على وضوح، كأن له عشرة أصداء تتكرر معه، فتحس به يأخذك من أطرافك ويأتي عليك من الأقطار الأربعة، فتسمعه بأذنيك وقلبك وجوارحك، بل تكاد يدك تلمس فيه (شيئا) ضخما. . . على صحة في المخارج، وضبط في الأداء وقوة في النبرات وثبات في المحطات واعتداد بالنفس عجيب، تشعر به في هذا الصوت الذي يكون له هذا الدوي كله، وهو يخرج من فم صاحبه باسترسال واسترخاء لا يفتح له شدقه لا يحرك لسانه، ولا يمد نفسه ولا يجهد نفسه، وإنساناً بهذا الصوت وهذا