الإلقاء أن ننقد القصيدة، أو نجد لها العيوب، ونلك به قلوبنا وقلوب الحاضرين فصفقنا له حتى احمرت منا الأكف.
وقلت لسعيد: من هذا؟
قال: هذا فارس الخوري.
وكنت قد سمعت باسم (فارس الخوري) قبل ذلك بزمان، سمعت به مذ كنت تلميذا في السنين الأواخر من المدرسة الابتدائية أيام الملك فيصل (١٩١٩) وكنا نعرفه علما من أعلام السياسة، وركنا في وزارة المالية، ولكني لم أره قبل هذه الحفلة.
ومرت الأيام، وخرجت من الثانوية، واشتغلت بالسياسة (كما كان يشتغل لداتي يومئذ) وصرت سنة ١٩٣١ رئيس اللجنة العليا لطلبة دمشق، ومحررا في الجريدة الوطنية الكبرى جريدة (اليوم) التي كان يقوم عليها الكاتب الوطني الخطيب الأديب، الذي علمنا تقديس الشرف وتقدير الرجولة، عارف النكدي وكانت اللجنة تأتمر بأمر الكتلة الوطنية، التي كان لها (في تلك الأيام) قيادة الأمة، وكانت هي وحدها تحمل لواء الجهاد والعمل على ألاستقلال، فكنت اتصل بكبار رجالها، وكنت أحضر بعض مجالسهم، وهناك عرفت فارس الخوري من قرب فرأيت فيه رجلا وديعا ظريفا، حليما واسع الصدر ولكنه كان (مع هذه كله) هائلا مخيفا تراه أبداً كالجبل الوقور على ظهر الفلاة لا يهزه شئ ولا يغضبه ولا يميل به إلى الحدة والهياج يدخل اعنف المناقشات بوجه طلق، وأعصاب هادئة فيسد على خصومه المسالك، ويقيم السدود من المنطق المحكم والنكتة الحاضرة والسخرية النادرة والعلم الفياض والأمثال الحكم والشواهد ويرقب اللحظة المناسبة حتى إذا وجدها ضرب الضربة الماحقة وهو ضاحك ثم مد يده يصافح الخصم الذي سقط لا يرفع صوته، لا يثور ولا يعبس ولا يغضب ولكنه كذلك لا يفر ولا يغلب.
وما رأيته يناقش أحداً شبهته بأستاذ يناقش تلميذاً مدلل غبياً، فأنت تلمس في لهجته ولحظته وبسمته وكلمته، صبره عليه، وتملكه منه، وإشفاقه عليه.
ثم كنت تلميذه في السنة الأخيرة من كلية الحقوق (١٩٣٢) وكان يدرس علم المالية، وأصول المحاكمات المدنية، يلقى درسه إلقاء لا تدري أأنت تعجب وتطرب، لفصاحة لهجته، أم الغزارة مادته، إلقاء غير محتفل به ولا متجمع له، وكانت له عادة (لازمة) هي