[النابغون في أوطانهم]
حديث عن البحتري
محمود عزت عرفه
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
. . . وللبحتري في هذا الشأن حديث عجيب.
فقد كان أحد الذين ارتفعوا بشعرهم من حضيض الجهالة والخمول إلى ذروة النباهة والمجد. ولسنا نجد في ديونه على ضخامته ما يشير به إلى حياته الأولى في موطنه (مَنْبج) سوى ما ينص عليه من عداوة بعض أهله له، برغم ما يعود به عليهم - وعلى سواهم - من فضل المال والجاه، والشفاعة لدى الخلفاء، ورفد العفاة وفك العانين. . وذلك حيث يقول في قصيدة له:
ومن الأقارب من يُسر بميتتي ... سفهَاً، وعز حياتهم بحياتي
إن أبقَ أو أهلكْ فقد نلت التي ... ملأت صدور أقاربي وعداتي
وَغنيتُ ندمانَ الخلائفِ نابهاً ... ذكرى، وناعمة بهم نشواتي
وشفعت في الأمر الجليل إليهمو ... بعد الجليل، فأنجحوا طَلباتي
وصنعت في العرب الصنائع عندهم ... من رِفْد طلاَّبٍ وفك عُناةِ
وحضي البحتري عند المتوكل بأرفع المراتب وأسنى الدرجات فكان شاعره المقرب الأثير لا تندُّ عنه في الحياة رغبة أو تبعد دونه أمنية. . ولكن شاء القدر مع ذلك إلا تزال نفسه تهفو إلى عُرض ما، فكن ينتابه القلق ويساوره الحنين إلى الإلمام بوطنه منبج، ولا ينفك بالمتوكل مستحثاً إياه على قصد هذه البلاد كلما قصد إقليما أو غشي موضعاً:
لو كنت أحسد أو أنافس معشراً ... لحسدت أو نافست أهل الموصل
غشى الربيع ديارهم وغشيتها ... وكلاكما ذو عارض متهلّل
فأضاء منها كل فج مظلم ... بكما، وأخصب كل واد ممحل
فمتى تخيم بالشآم فيكتسي ... بلدي نباتاً من نداك المسبل؟!
وكأنما شاء القدر - مرة أخرى - أن يلوح للبحتري بتحقيق أمنيته. فاضطرب حبل الأمور