اجتازت العلوم الرياضية كغيرها من العلوم أدواراً ثلاثة: دوراً إلهياً ودوراً تجريبياً عملياً، ودوراً نظرياً مجرداً
فكانت فكرة القوة الميكانيكية فكرة إلهية تعزى إلى الآلهة في جميع حالاتها في تلك الأزمان التي كانت تنسب فيها جميع الحوادث إلى الآلهة المتعددة حينئذ بصورة مباشرة، وكذلك كانت الأشكال الهندسية مقدسة، وللأعداد خواص يعتقد بتأثيرها، ومع ذلك فقد أخذت الحقائق الرياضية تتولد تدريجاً بالحدس مستمدة من العمل والتجربة اللذين هما مصدران من مصادر الإلهام، وينبوعان يستقي منهما العقل البشري أفكاره في كل زمان. وعلى هذا النحو اكتشف كثير من النظريات والحقائق الرياضية، كنظرية مساواة مربع الوتر لمربعي الضلعين القائمين في المثلث القائم.
وكثيراً ما أدت أغراض عملية إلى حقائق نظرية كانت لها خطورة في نشوء العلم وتطوره؛ فعملية المساحة عند قدماء المصريين أدت إلى اكتشاف كثير من الحقائق الرياضية. كما أن الفينيقيين اضطروا إلى الحساب استعانة به على أمر تجارتهم، وكذلك لجأ إليه الكلدانيون لمزاولتهم الفلك والتنجيم.
على أن أكثر الأمور العملية كانت تشوبها أمور دينية، فعملية المساحة عند المصريين كانت مهمة دينية يقام لها حفل يحضره الملك. ولا يخفى كذلك أن الفلك عند الكلدانيين لم يكن منفصلاً عن التنجيم. فبسبب هذه العوامل اكتشفت بعض قواعد عملية، لم تصل إلى درجة يؤبه لها من اليقين العلمي، وكثيراً ما كانت تقريبية غير مضبوطة، عرفت بفضل التجربة - ولا أعني بالتجربة في كل ما تقدم القيام بعمل يقصد منه اكتشاف قضية علمية أو إثباتها كما يفهم منها اليوم، بل أريد منها ما يصادفه الإنسان من المشاهدات والملاحظات أثناء القيام بأعماله الحيوية - فكانت الهندسة في تلك العصور الغابرة عبارة عن مجموعة