نشأت في كنانة حول الطائف ومكة، وقد باكرها النعيم فشبت صحيحة جميلة، ورضعت أفاويق البلاغة من قومها، فنشأت فصيحة بليغة، خطبها سيد قرشي، من أشراف مكة وعصبة النبي، وبنى بها فطاب حالهما، وصفا عيشهما. وقرأ في المدينة زمنا أسعدهما الله فيه بغلامين كانا بهجة النظر وأمنية الفؤاد.
اختار (الأمام علي) زوجها ليكون عاملا له على (اليمن) يجبي خراجها، ويقوم بشعائر الدين فيها، فابتهجا بالمنصب الرفيع والحظ المقبل، وانتقلت الأسرة إلى مقرها الجديد إلى اليمن، واليمن جنة العرب وروضة الجزيرة. هواءها رخي وتربها ندي، وفاكهتها كثيرة، وجدا فيها مجالا للمتعة، ومراحا لطفليهما العزيزين يطلقانهما في الصباح لينعما بشمس الشتاء الضاحية، ويتمتعا بمناظر الوديان، ومظاهر الجنان، وقد حل فيهما من بهجة الأزهار، ونغمة الأطياف وانعطاف الأغصان، وانسجام الظل، مشابه؛ فاستحار جمالهما، وتمت آدابهما، واستوليا على كل قلب، واختطفا النظر من كل عين.
غاب أبوهما عن مدينته لبعض شؤونه، وخرجا كعادتهما يتنزهان وإذا رجل يقبل عليهما مسترق الخطى، ويتلطف بهما ويغريهما بالسعي معه، وإذا به يقبض عليهما ويكم أفواههما، واذا به قد انتضى سكينا مرهفة وقضى عليهما، ثم أطلقها ضحكة عالية قائلا:
(الآن تمتع بالحياة يا عبيد الله!)
انتظرت (جويرية الكنانية) ولديها يؤوبان إليها مع الغداة، ولكنهما تأخرا على غير عادتهما، فتربصت طويلا، منصتة إلى بابها لعل طارقا يطرقه، وكلما لعب به الريح هرولت إليه وفتحته باسطة ذراعيها، ولكنها في كل مرة تعانق الهواء، ولما فرغ فؤادها دفعت خادمتها لتقصهما، وما كادت الخادمة تسير خطوات حتى اندفعت وراءها سافرة حائرة، وطافت بمعاهد البلد وملاعبه، وكل فتى تتوسمه فتاها، وكل ندي تظنه قد حواهما، ولبس الأصيل ثوبه المعصفر، وزحف الليل بسواده وما رجعت بطائل غير هم ملأ قلبها وأسى قلقل كيانها، ومضى يوم ويومان وثلاثة وهي تطوف وتقول:
ألا مَنْ بيَّنَ الأَخويْ ... ن أُمُّهُمَا هي الثكلى