قلما استطاع المرء مهما امتدت ثقافته أو رقّ شعوره أن يدرك وهو على شاطئ البحر مدى ذلك الجزء من الأرض يغطيه الماء. وعبثا يعلم أن البحار تغمر نحو ثلاثة أرباع الكوكب الذي نعيش عليه. وأنى له أن يقدّر معنى هذه الحقيقة ويفهم أثرها في تطور المخلوقات، بل في تاريخ البشرية منذ ظهر الإنسان على سطح البسيطة؟ وماذا يعلم عابر المحيط من أمره إذ يرى سفينته العظيمة تتلقفها الأمواج وسط دائرة الأفق المطبق على سطح زاخر من الماء؟ وهل أدرك في تلك اللحظات أنه رب سابح فوق هوات عميقة، لو أن جبال أيفر ست اقتلعت من رواسيها وغاصت في البحر لابتلعتها تلك الهوات دون أن يظهر أثر لقمّتها الشامخة بتاج جليدها الأبدي؟ وكيف يدري أسرار تلك المياه وحركاتها وما أودعته من مخلوقات كأنها أسرار الجنة مغلقة في قماقمها؟ وأنى له أن يفهم أثر الأفلاك في ذلك المنبسط العظيم من الماء؟ وكيف يطلع على المآسي الدائرة على أساس تنازع البقاء وسط ذلك الخضم الهائل؟
أدرك الشعر عن طريق إحساسه شيئا من تلك العظمة البالغة. ووقف الشعراء يقارنون بين اليابسة وما عليها، فهناك تترك العصور الجيولوجية طابعها في الثلاجات والجبال والكهوف والوديان. والعصور التاريخية آثارها في المعابد والمقابر والمنازل. ولعل الصحراء أشد ما على اليابسة قدرة على الكتمان، ومع ذلك فقد تنجح أو لا تنجح في إخفاء معالم الحضارات في بطون كثبانها، وبين البحر وقد شهد معالم التاريخين، وتنازعته القوى الطبيعية والقوى البشرية، واتصلت بين شواطئه الحضارات. وهو عدا زئير أمواجه صامت لا يفشي سراً من أسراره.
تأمل البحر الأبيض تلك البحيرة الضئيلة وسط المحيطات. در حوله وطالع أثر الحضارات العظيمة التي قامت على شواطئه. هنا فينيقيا ومصر ويونان وروما والبندقية وجنوا وعصر الأسبان (الربنسانس) والقرن التاسع عشر. أنصت إلى صفحته المصقولة لتستخرج حديثاً وحيدا. نثه عن ذلك الماضي، سله عن سفن يونان عائدة من طروادة لعله