حينما أرى شيخوخة متهدمة فانية مدبرة الحياة تجرجر جسمها المتهالك كأنما تحمله حملا يبهر الأنفاس ويعيي الأوصال، في مزدحم طريق مكتظ بأجسام القادرين على الزحام من الرجال ذوي الألواح العريضة والأرجل الخفيفة والخطوات الماضية في خيلاء الشباب وطفور القوة وعزة القدرة على نيل الأشياء، وغرور الخدعة بالحياة، وقد احتدمت الحركة والجلبة ومضت (دواماتها) العنيفة بتلك الشيخوخة ترمى بها المرامي وسط هذا العباب الزاخر حينئذ اشعر أن هذا العجز يقبض على قلبي بقوة غالبة تجيش لها نفسي وتستجيب لها استجابة لا أحسها في كثير من الأحيان التي يطالعني فيها مشهد من مشاهد القوة والاجتياح.
وحين أرى طفلتي الصغيرة تبدأ حياتها منذ أن فصلت عن حياة الرحم وكل سلاحها للعيش وآلاتها في الكفاح هو الصراخ واستنجاد بقوى من يحيطون بها من الوالدين والأقربين، وتلك الغمزات الخفية على قلبي ألام والأب، غمز الرحمة لهذا الضعف في ي هذا الجسم الصغير الضئيل الطريح الذي لا يملك دفع الذباب والنمال عن نفسه ولا جلب غذائه، ومع ذلك فجميع من في البيت وما فيه من مسخر لرضاها والسهر على الدفاع عنها وجلب المسرة والمنفعة لها، اشعر كذلك ان العجز قوة يسخر لها هاد الأقوياء، واشرف ما في النفوس البشرية من أريحية كريمة هي التي تبني الاجتماع وتجمل الأخلاق وتعلو بمستوى الإنسان بل والحيوان.
ولقد أدركت من شيخوخة أمي رحمها الله في سنتيها الأخيرتين ما كان يثير في نفسي لوناً من الحنان الغامر والإشفاق والحساسية التي تبعث الدمع الهادئ اللذيذ حين كنت أرى ذلك العجز الذي طرأ عليها بعد قوة ولكنه مع ذلك سلحها بقوى جميع من في البيت، وسخرهم لها يخدمونها في لهفة ويكفونها كل حاجاتها في رضا ويسألونها كذلك الرضا.
وعجز الشيخوخة اشد إثارة للرحمة والشعور والعاطفة من عجز الطفولة؛ لأن يريك الهيكل البشري في هالة من تاريخ قوته، فتشعر انك معه إزاء طلل لبناء عزيز كان عامراً فأضحى غمراً، تعفيه الرياح، وينال منه الإمساء والإصباح، ويدبر منه ما كان مقبلاً.