وقديماً بكى الشعر على الأطلال وبحث في أصباغها الناصلة وشواخصها المائلة عن الأشباح التي كانت تعمرها والصور والظلال والأصوات والذكريات التي وقعت عليها والنفس إزاء عوامل الفناء اشد حساسية وإرهافاً منها إزاء عوامل الحياة، لأن النفس من عالم الوجود فليست عوامل الحياة غريبة عليها غربة عوامل الفناء.
وعوامل الحياة تمدها بالطمأنينة والأمل والشعور بالاستمرار والامتداد، أما عوامل الفناء فتأخذ منها الطمأنينة وتعطيها الرهبة والشعور بالنهاية وتقفها على حافة المجهول الذي مضى إلى هاويته كل ما كان ويمضي إليها كل ما هو كائن.
والعجز هو مدخل الإيمان وحجته الهادئة التي لا جدال معها لمنطق. فهو إن كان يثير اشرف ما في النفس وأعظمه أثرا في بناء روابط الاجتماع على أسس من الرحمة والعاطفة، فهو كذلك يثير اشرف ما فيها وأعظمه أثرا في بناء الإيمان وروابط الإنسان بالله على أسس من الفكر والإدراك. وقفة واحدة مخلصة من فكر الإنسان الضئيل المحدود وسط هذا الكون الجبار الحافل بالقوى ذات الهول والاجتياح والرحابة والدوام، والأجرام السماوية ذات الأحجام والأرقام الفلكية، كافية لأن تطلق من صدر الإنسان آهة عميقة فيها الإقرار بالعجز والاستسلام والإنكار لمزاعم القدرة والاستطالة، وصرخة وجلة دامية فيها طلب اللياذ والاحتماء في صدر كن رحيم حنون، وكنف قوى مأمون هو كنف (الذي) بنى هذا الكون الهائل العاقل من هذه القوى الجبارة العمياء المجنونة التي تسير في نظم ولجم تمسكها يد القهر فلا تفلت ولا تلتوي ولا تجمح!
وإذا كان غرور الحياة في بعض النفوس البشرية قد سول لها أن تزعم مزاعم الاستكبار والإنكار، فذلك لأنها نسيت عجزها وضعفها وسجنها في هذا الكون الذي لا يستطيع منه مهرباً إذ دخلته على غير اختيار وستحرج منه على كره.
وهؤلاء الذين يثيرون بمنطقهم وجدلهم وزخرف قولهم الشغب والثورة على حكومة الكون، ويعييك أن تقنعهم بالحجة الفالجة والحق الدامغ، تستطيع أن تراهم يسرعون إلى الدخول فيما دخل إليه جمهور الناس من إيمان إذا ما ضربهم الزمان بالعجز وقيدهم بقيوده وطرحهم مطارح يرون فيها أنفسهم كائنات تافهة لا تملك لنفسها نفعاً ولا عنها دفعاً ولا يحل بهم الليل والنهار، ولا تنظر إليهم السماء والأرض، ويرون أنفسهم تذهب كما تمضي