للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ورقة جافة أو تبنه تافهة. . عندئذ يأخذهم العجز بقوته السالبة الغالبة إلى عتبات ربهم يطرحون عليها قلوبهم ويعفرون بترابها وجوههم ويبللونها بدموعهم ويقولون مع أبي نؤاس:

ذهبت جدتي بطاعة نفسي ... طلبت طاعة الله نضوا

ومن رحمة الله بالناس أن جعل الدور الأخير من حياة اكرهم فترة عجز وضعف وخمود يدركون فيها حقيقة حياتهم وحقيقة الحياة كلها ويخلصون فيها لأنفسهم، يصفون ما بها من غرور ويبصرون الطريق إلى الإيمان، وتصح أحلامهم ويرعوي بالحلم ويتركون ميادين النزاع والأباطيل ويقولون مع ابن المعتز:

أخذت من شبابي الأيام ... وتولى الصبا عليه السلام

وارعوى باطلي وبان حديث ... النفس مني وصحت الأحلام

ولو استمر شباب الجسم وعنفوانه يصحب الناس إلى نهاية حياتهم ما ارعوى باطلهم ولا خف طيشهم ونزاعهم، ولا صفت طباعهم من ثورة الأكدار التي تثيرها نوازع الشباب واحتداماته واندفاعاته؛ لأن السر في اندفاع الشباب انه يعتمد على ذخيرة من قوى الحياة التي تقتضيها آلات الجسم الصحيح والعيش الصحيح، ولأنه لم يبصر كثيراً من الأحكام الصحيحة على الحياة إذ هو مشغول بإحساسه بغيض الحياة ونشوتها الغامرة، فلم تترك له عجلتها الدائرة في جلبة وقوة ان يبصر الأشياء الثابتة، لأن حركة الحياة في نفسه تزيغ نظره عن الأوضاع الصحيحة. فإذا ابتدأت العجلة تهدئ من دورانها شيئاً فشيئاً استطاع المرء أن يبصر الأمور في ريث وهينة ويتملى في أوضاعها المختلفة فيحكم عليها حكماً صحيحاً.

فلنرد النفس في فترات إلى الشعور بالعجز وسط جبروت الكون، وهول الطبيعة وإصرارها على قوانينها، ودوامها في سلطانها، حتى تشعر دائماً إنها في الكون شئ ربما يكون غير مذكور ولنأخذ من العدل قوانين تعدل قوانين تعدل قوانين القوة والبطش التي لا يدين الناس لغيرها.

وليكن ما في العجز من ظلال عكسية لأوضاع القوة في الحياة سبيلاً لإيقاظنا إلى واجبات لا نراها إلا في الظلال، تلك الواجبات التي لا تسوقنا إليها القوة، وإنما تسوقنا إليها

<<  <  ج:
ص:  >  >>