للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[العجوزان]

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

قال محدَّثي: التقى هذان الشيخان بعد فراق أربعين سنة، وكانت مثابتهما ذلك المكانَ القائم على شاطئ البحر في إسكندرية في جهة كذا، وهما صديقان كانا في صدر أيامهما - حين كانت لها أيام. . . - رَجُلي حكومة يعملان في ديوان واحد، وكانا في عيشهما أخَوَيْ جد وهزل وفضائل ورذائل، يجتمعان دائماً اجتماع السؤال والجواب، فلا تنقطع وسيلة أحدهما من الأخر؛ وكأن بينهما في الحياة قرابة الابتسامة من الابتسامة، والدمعة من الدمعة

ولبثا كذلك ما شاء الله ثم تبددا، وأخذتهما الآفاقُ كدأب (الموظفين) ينتظمون وينتثرون، ولا يزال أحدهم ترفعه أرض وتخفضه أخرى، وكأن (الموظف) من تفسير قوله تعالى: (وما تدري نفسٌ بأي أرض تموت)

وافترق الصديقان على مضض، وكثيراً ما يكون أمر الحكومة بنقل بعض (موظفيها) - هو أمرها بتمزيق بعضهم من بعض؛ ثم تصرَّفت بهما الدنيا فذهبا على طرفي طريق لا يلتقيان، وأصبح كلاهما من الآخر كيومه الذي مضى، يُحفظ ولا يُرى

قال المحدِّث: وكنت مع الأستاذ (م)، وهو رجل في السبعين من عمره، غير أنه يقول عن نفسه إنه شابٌ لم يبلغ من العمر إلا سبعين سنة. . . ويزعم أن في جسمه الناموسَ الأخضر الذي يحيي الشجرة حياة واحدةً إلى الآخر

رجل فارةٌ، متأنق، فاخر البزَّة، جميلُ السَّمْت، فارغُ الشَّطاط كالمصبوب في قالب لا عوج فيه ولا انحناء، مجتمع كله لم يذهب منه شيء، قد حفظته أساليبُ القوة التي يعانيها في رياضته اليومية. وهو منذ كان في آنِفَتِه وشبابه لا يمشي إلا مستأخر الصدر، مشدود الظهر، مرتفع العنق، مسندا قفاه إلى طوقه؛ وبذلك شب وشاب على استواء واحد، وكلما سئل عن سر قامته وعوده لم يزد على قوله: إن هذا من عمل إسناد القفا. .

وهو دائماً عَطرٌ عبق، ثم لا يمسُّ إلا عطرا واحد لا يغيره، يرى أن هذا الطيب يحفظ خيال الصبي، وأنه يبقي للأيام رائحتها

وله فلسفة من حسّه لا من عقله. ولفلسفته قواعد وأصول ثابتة لا تتغير؛ ومن قواعدها الزهر، ومن بعضها الموسيقى، ومن بعضها الصلاة أيضاً. وكل تلك هي عنده قواعد لحفظ

<<  <  ج:
ص:  >  >>