كم يود صاحب هذا المقال لو كان شاعرا وثاب الخيال، مطلق العاطفة، جزل الألفاظ، سري المعاني! إذاً لاستطاع أن يصوغ للقراء من سيرة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد قصيدة عصماء يضمنها مناقب تلك السيدة الجليلة، وما مناقبها إلا مناقب المرأة الكاملة من جمال، وطهر، وعفاف، وزوجية بارة، وأمومة صحيحة، ومواساة في أشرف معانيها
ولكن صاحب هذا المقال، وا أسفاه! ليس شيئاً من ذلك الشاعر الذي يتمنى أن يكونه. إن هو إلا مؤرخ يعرض لوقائع الحياة العامة من ناحيتها الوضيعة جهد طاقته، ويشد خياله الراكد إلى تلك الواقع، فلا يأذن له ولا بمحاولة التطاير والتحليق، ويكتم عاطفته حتى لا يطغي عليه سلطانها فيتنكب سبيل المؤرخ الذي همه البحث والتحقيق، ثم العرض البسيط للأشياء؛ فليقنع القارئ الكريم بالصورة المجملة التي أرسمها في هذا المقال، حتى يتأذن الله بظهور شاعر عظيم ينظم الإلياذة العربية، فيطالع فيها إذ ذاك فصلا عن تلك السيدة يكون من أبلغ ما خطه يراع شاعر وأروعه
كانت جزيرة العرب في القرن السادس الميلادي قد أخذت تتهيأ للأحداث الجسام التي تمخض عنها القرن السابع، وقد بدا ذلك التهيؤ في جميع مناحي الحياة العربية العامة، سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية. ونحن إنما تهمنا في هذا المقام الناحية الاجتماعية، ويهمنا منها بصفة خاصة نظام الأسرة. كان نظام الأسرة قد أخذ يتحول في حواضر الحجاز عامة ومكة خاصة إلى النحو الذي أقره في جملته الإسلام فيما بعد، فأخذت تتلاشى ضروب الازدواج القديمة التي اعتبرها الإسلام سفاحا، ويحل محلها نظام الزواج القائم على التراضي والتعاقد. وصاحب هذا التطور الخطير في بناء الأسرة تطور خطير مثله في مكانة المرأة الاجتماعية؛ فبعد أن كانت المرأة العربية ليس لها حق التمسك ولا حق الإرث، بل بعد أن كانت هي نفسها تملك وتورث في بعض الحالات، أصبحت تستمتع بحق الملكية وحق الميراث وحق التصرف في مالها، وحق مفارقة الزوج عند اللزوم، هذه الحرية المستحدثة جعلت المرأة العربية عاملا فعالا في الحياة المكية العامة قبيل الإسلام