للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الكتب]

المقتطف والمتنبي

المقتطف شيخ مجلاتنا؛ كلهن أولاده وأحفاده. وهو كالجد الأكبر، زمن يجتمع، وتاريخ يتراكم، وانفراد لا يلحق، وعلم يزيد على العلم بأنه في الذات التي تفرض إجلالها فرضا، وتجب لها الحرمة وجوباً، ويتضاعف منها الاستحقاق فيتضاعف لها الحق.

وهل الجد إلا أبوة فيها أبوة أخرى، وهل هو إلا عرش حي درجاته الجيل تحت الجيل، وهل هو إلا امتداد مسافاته العصر فوق العصر؟

والمقتطف يكبر ولا يهرم، ويتقدم في الزمن تقدم المخترعات ماضيةً بالنواميس إلى النواميس، مقيدةً بالمبدء إلى الغاية. فلقد أنشئ هذا المقتطف وما في المجلات العربية ما يغني عنه، ثم أسفت الدنيا حوله بأخلاقها وطباعها، وتحولت مجلات كثيرة إلى مثل الراقصات والمغنيات والممثلات. . . وبقي هو على وفائه لمبدئه العلمي والسمو فيه والسمو به، كأنما أخذ عليه في العلم والأدب ميثاق كميثاق النبيين في الدين والفضيلة؛ فبين يديه الواجب لا الغرض، وهمه الإبداع بقوى العقل لا الاحتيال بها، وهديه الحقيقة الثابتة في الدنيا لا الأحلام المتقلبة بهذه الدنيا، وطريقه في كل ذلك طريق الفيلسوف من هدوء نفسه لا من أحوال الدهر، فهو ماض على اليقين، نافذ إلى الثقة، متنقل في منزلة منزلة من يقينه إلى ثقته، ومن ثقته إلى يقينه.

وقد بدأ المقتطف مجلده الثامن والثمانين بعدد ضخم أفرده للمتنبي. ولئن كانت الأندية والمجلات قد احتفلت بهذا الشاعر العظيم، فما أحسب إلا أن روح الشاعر العظيم قد احتفلت بهذا العدد من المقتطف.

ولست أغلو إذا قلت إن هذه الروح المتكبرة قد أظهرت كبرياءها مرة أخرى، فاعتزلت المشهورين من الكتاب والأدباء ولزمت صديقنا المتواضع الأستاذ محمود شاكر مدة كتابته هذا البحث النفيس الذي أخرجه المقتطف في زهاء ستين ومائة صفحة تدله في تفكيره، وتوحي إليه في استنباطه، وتنبهه في شعوره، وتبصره أشياء كانت خافية وكان الصدق فيها، ليرد بها على أشياء كانت معروفة وكان فيها الكذب، ثم تعينه بكل ذلك على أن يكتب الحياة التي جاءت من تلك النفس ذاتها، لا الحياة التي جاءت من نفوس أعدائها وحسادها.

<<  <  ج:
ص:  >  >>