ولقد كان أول ما خطر لي بعد أن مضيت في قراءة هذا العدد - أن المؤلف جاء بما يصح القول فيه إنه كتب تاريخ المتنبي ولم ينقله؛ ثم لم أكد أمعن في القراءة حتى خيل إليّ أنه قد وضع لشعر المتنبي بعد تفسير الشرّاح المتقدمين والمتأخرين تفسيراً جديداً من المتنبي نفسه؛ وما الكلمة الجديدة في تاريخ هذا الشاعر الغامض إلا الكلمة التي نشرها المقتطف اليوم
إن هذا المتنبي لا يفرغ ولا ينتهي، فان الإعجاب بشعره لا ينتهي ولا يفرغ. وقد كان نفسا عظيمة خلقها الله كما أراد، وخلق لها مادتها العظيمة على غير ما أرادت. فكأنما جعلها بذلك زمنا يمتد في الزمن.
وكان الرجل مطوياً على سر ألقى الغموض فيه من أول تاريخه، وهو سر نفسه، وسر شعره، وسر قوته؛ وبهذا السر كان المتنبي كالملك المغضوب الذي يرى التاج والسيف ينتظران رأسه جميعاً، فهو يتقي السيف بالحذر والتلفف والغموض، ويطلب التاج بالكتمان والحيلة والأمل.
ومن هذا السر بدأ كاتب المقتطف فجاء بحثه يتحدَّر في نسق عجيب متسلسلا بالتاريخ كأنه ولادة ونمو وشباب، وعرض بين ذلك شعر أبي الطيب عرضاً خيل إلي أن هذا الشعر قد قيل مرة أخرى من فم شاعره على حوادث نفسه وأحوالها. وبذلك انكشف السر الذي كان مادة التهويل في ذلك الشعر الفخم إذ كانت في واعية الرجل دولة أضخم دولة عجز عن خلقها وإيجادها فخلقها شعرا أضخم شعر، وجاءت مبالغته كأنها أكاذيب آماله البعيدة متحققة في صورة من صور الإمكان اللغوي.
ومن أعجب ما كشفه من أسرار المتنبي سر حبه، فقال: إنه كان يحب خولة أخت الأمير سيف الدولة، وكتب في ذلك خمس عشرة صفحة كبيرة، وكأنها لم ترضه فقال إنه كان يؤمل أن يكتب هذا الفصل في خمسين وجهاً من المقتطف. وهذا الباب من غرائب هذا البحث، فليس من أحد في الدنيا المكتوبة (أي التاريخ) يعلم هذا السر أو يظنه. والأدلة التي جاء بها المؤلف تقف الباحث المدقق بين الإثبات والنفي؛ ومتى لم يستطع المرء نفيا ولا إثباتا في خبر جديد يكشفه الباحث ولم يهتد إليه غيره، فهذا حسبك إعجاباً يذكر، وهذا حسبه فوزا يعد ولعمري لو كنت أنا في مكان المتنبي من سيف الدولة لقلت إن المؤلف قد