قال محدثنا: وكنت قد ضقت بهذه اللجاجة الفلسفية ورأيتني مضطغناً على الشيخين معاً؛ فقلت للعجوز (ن): حدثني (رحمك الله) بشيء من قديمكما فأنتما اختصار لكل ما مر من الحياة يستدل به على اصله المطول إلا في الحب. . . وما زلتما في جد الحديث تعبثان بي منذ اليوم، فقد عدلتما بي إلى شانكما ورأيكما في القديم والجديد وبقي أن أميل بكما ميلة إلى سنة ١٨٩٥. وقد والله كاد ينتحر قلبي يأساً من خبر (كاترينا ومرغريت)؛ ولكأنك تخشى إذ أعلمتني خبر صاحبتك هذه وهي من وراء أربعين سنة - ما تخافه من رجل سيفجؤك معها في الخلوة على حالٍ من الربية فيأخذك (متلبساً بالجريمة) كما تقولون في لغة المحاكم. . .
قال فضحك العجوزان وقال (ن): لا والله يا بني، أقول ما قال ذلك الحكيم العربي لقومه وقد بلغ مائتي سنة:(قلبي مضغة من جسدي ولا أظنه إلا قد نحل كما نحل سائر جسدي وأعلم يا بني إنه إذا ذهب الحب عن الشيخ بقي منه الحنان يعمل مثل عمله؛ فيحب العجوز مكاناً أو شيئاً أو معنى أي ذلك كان ليعيده ذلك إلى الدنيا أو يبقيه فيها (بقدر الإمكان). . .) فضحك الأستاذ (م) وقال: ولعل ثرثرة العجوز (ن) هي الآن معشوقة العجوز (ن).
ثم قال: وكل شيء يرق في قلب الرجل الهرم ويحول وجهه كأنه لا يطيق أن ينظر إلى معناه الغليظ؛ ولا بد أن يخرج العجوز من معاني الدنيا قبل أن يخرج من الدنيا. ولهذا لا يهنأ الشيخ إلا إذا عاش بأفكار جسمه الحاضر وقدر الأمور على ما هو فيه لا على ما كان فيه. والفرق بين جسمه الحاضر وبين جسمه الماضي أن هذا الماضي كانت تحمله أعضاؤه فهو مجتمع من أعمالها وشهواتها ماضٍ في تحقيق وجودها ومعانيها. أما الحاضر؛ أما الجسم الهرم فهو يشعر أنه يحمل أعضاؤه كلها وكأنها ملفوفة في ثيابه كمتاع المسافر قبل السفر. . . وكأن بعضها يسلم على بعض سلام الوداع يقول تفارقني وأفارقك.
فتململ الأستاذ (م) وقال: أفٍ لك ولما تقول! لا جرم أن هذه لغة عظامك التي لا صلابة فيها، فمن ذلك لا تجيء معانيك في الحياة إلا واهنة ناحلة فقدت أكثرها وبقي من كل شيء منها شيء عند النهاية. أليس في الهرم إلا أن يبقى الجسم ليكون ظاهراً فقط كعمشوش