فأنه استغنى عن النماذج اليونانية التي يستشهد بها المؤلف وأحل محلها نماذج عربية احسن انتقائها واصطفاءها ودلت على ثقافة أدبية عالية في ابن رشد لا تقل قيمة عن بقية الثقافات التي يتضلع بها الفيلسوف. ولكن عيب الترجمة في ابن رشد طوى كل النماذج اليونانية، ومن حقه أن يأتي بها ويضع إزاءها ما جاء به من نماذج العرب لتكون الترجمة والمقارنة في الأمانة سواء؛ وجاء تقسيمه للمقالات بحسب تقسيم أبواب الشعر عند العرب، لأنه وقف درسه على هذه الأبواب، وقد أضاف إليها دراسات مختلفة في صناعة الشعر والغاية منها، وفي ألحانه وأوزانه بالنظر إلى التوقيع لا إلى الأعاريض، وفي العلل المولدة للشعر، وفي التخيلات والمعاني، وفي كيفية التخلص إلى ما يراد محاكاته وأنواع المحاكاة المقبولة وغير المقبولة، وفي صناعة الأشعار القصصية. وكان أكثر توسعاً وتصرفاً في درس صناعة (المديح وأجزائها) لأن هذه الصناعة كانت أروج أبواب الشعر في ذلك العهد، وموضع التفات أكثر الشعراء، ولسهولة المقارنة فيها، واستخراج النماذج منها، وقد غض عن ذكر (الهجاء) لأن قوانينه تنطبق على قوانين المديح. على أن ابن رشد ليلام لوما عنيفاً في هذا الباب لإهماله باب الوصف إهمالاً كلياً. ولعل درسه له كان يعمل على خلق جديد فيه. ولا ريب عندي أن أرسطو قد عالج هذا الباب الواسع عندهم معالجته لغيره من الأبواب، ولكن ابن رشد قد طوى كشحاً عنه كما ضرب صفحاً عن غيره.
أما الغرض من هذا الكتاب فهو - كما يقول صاحبه - (تلخيص القوانين الكلية المشتركة لجميع الأمم أو للأكثر في الشعر ونسبة الموجودة في كلام العرب أو كلام غيرهم. والشعر عنده هو أقاويل يحتاج إلى وزن ولحن، ولا يسمى الشعر إلا ما جمع إلى الأقاويل التي تسمى شعراً مع الألحان كهوميروس (ولعل هذا النوع هو ما يدعى الشعر القصصي، وهو أول ما عرفه اليونان من ضروب الشعر)، وقد أدخل على الصناعة الشعرية بعض أقيسة منطقية، دأبها تكبل الشعر، ولكنها تقوم العقل.