للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[من ذكريات مصر]

ساعات مع الكاظمي

للأستاذ كمال إبراهيم

مات الكاظمي! فطويت بموته للعبقرية صفحة زاهرة، كانت سامية المثال، علوية الروح، عراقية النشأة؛ نمت نبتتها متسقة الأصول على دجلة المبارك، وعلت دوحتها مبسوطة الأفانين على ضفاف النيل السعيد؛ وما زالت تصوب إلى السماء صعداً حتى اجتاحها للمنية إعصار شديد، فجالدها أعواماً، وغالبها أياماً، حتى هوى بها من باسق الذرى إلى الأرض، حيث النهاية التي لا تراغم، والقدر غير المدفوع

مات الكاظمي! فسكت لسان عربي مبين، كان فخر لغة الضاد، وحادي الأبناء إلى المجد، وباعث العزائم في الخطوب السود؛ وكان لسان العروبة الناطق بحقها في حياتها، ومخذمها المذرب عند الخصام، فكم ذاد عن الحسب الكريم، ونافح عن الحق الهضيم، وتغنى بالمجد القديم، يوم لم نكن نجد في هذه الأمة إلا الخافر لذمتها، والمنتهك لحرمتها، والكافر بنعمتها، والمظاهر لأعدائها عليها

وا لهفتا على العروبة الهضيمة! لقد أخرس الردى شاعرها الصيداح، فاشتملت بالأسى أباطح الحجاز، وصوحت أزاهير اليمن الخصراء، وحالت ربى حائل والرياض، وجلل السواد سواد العراق، وفاضت عيون النيل، وجرت باكية معولة عيون الشام ومحاجر لبنان، ترجع أنغامها الحزينة بنات الهديل بين لفائف الأغصان. .

كان الشعر العربي قد بلغ من الإسفاف الحضيض، فعدت به عن مجاراة الحياة أثقال تلك الصناعة الممقوتة التي حملها إياه شعراء الفترة المظلمة، وضيقت عليه الخناق تلك القيود المحكمة من زخارف اللفظ وبهارج البديع وأفانين الصناعة، حتى أخرجته عن طبيعته، وزاغت به عن سمته، فجاء متكلفاً نابياُ، وغثاً بالياً وجامداً بغير روح، لولا ذماء ضعيف يشعر ببقية الحياة. كان الشعر كذلك، وكانت البيئة الأدبية في العراق متأثرة كل التأثر بشعر (الأخرس، وصالح التميمي، والشاوي، والحبوبي، وأضرابهم) حتى أتاح القدر للشعر من نفخ فيه من روحه؛ فأطلقه من عقاله، وأنهضه من كبوته، وسما به صعداً إلى السماء يرف بجناحين من نور، بعد أن كاد يحثى عليه التراب في حفير مظلم عميق، وكفى

<<  <  ج:
ص:  >  >>