في مثل هذا الأسبوع من عامنا المنصرم أخذت الرسالة طريقها الصامت إلى المطبعة. ثم خرجت منها إلى الناس تخطو خُطى الوقار في عِطاف الحشمة، لا يَجذب الطرف ظاهرها المتبرج، ولا يخلب اللب باطنها الفكِه. وكانت منذ انطلاقها من عقال التردد نتظنن في عواقب الجرأة على لقاء الجمهور بهذا المزاج في هذا الزي، فلا تدري أيصّدق ظنّها أم يكّذبه، ويحقق أملها أم يخيبه.
فلما بش لها بشاشة الزهر، وأقبل عليها إقبال الدهر، تبدلت لهذا الشعب الكريم صورة مكان صورة، ونشأت عنه فكرة بدل فكرة، وأيقن الذين رموا عقليته بالاعتلال، وثقافته بالهزال، وأدبه بالعبث، إن وراء هذا المظهر المزور عقلا قويما يلذه التفكير، وذوقا سليما يروقه الجد
والواقع أن الرسالة كانت صرخة الحق في ضجة الباطل، دلت على العمق الصحيح لثقافة الكتاب، والاتجاه الصادق لهوى القراء، والمستوى الحق لرقي الأمة، وكان لها أن تزعم - إذا استجازت الفخر - بأن مجموعتها سجل مضبوط لألوان الأدب العربي في هذا العصر
لم تلبث الرسالة على قرب عهدها بالوجود ان عقدت أسباب المودة بينها وبين القلوب العربية في أقطار الأرض، فظلوا يخالصونها الولاء، ويصادقونها النصح، ويواضعونها الرأي، ويربأون بها أن تسف أو تخف أو تشغل مكانا منها بإعلان؛ وظلت هي على العهد الذي قطعته تتحرى وجوه الرشد وتتوخى سبيل القصد، وتحدوا أهواء النفوس إلى الغاية التي يتوافى عليها الاخوة، وتلتئم عندها الوحدة، والله يعلم ما لقيت الرسالة في طريقها من عنَت الشهوات، ورَهَق الحوادث، فما خنست لها همة، ولا انقبضت لها عزيمة، لان المؤمن الصادق لا يُفْتَن عما يعتقد، ولاَ يُخدع عما يرى، ولا يُؤفك عما يقصد
لم تكن الرسالة متجنيَة على الحق يوم أخذت على نفسها الموثق بأداء هذا الواجب، فأن القائمين بها كانوا يعملون من دلائل الحال ان الأدب الصحيح الناضج إنما يتجلجل داويا في أعماق أهله، ثم لا يجد السبيل إلى الخارج لتسلط الوساوس التي ذكرناها في صدر العدد الأول من الرسالة. فكان كل أديب موهوب يقصر الحان قلبه على سمعه، كأنه الينبوع الشادي في خلوة الوادي، لا يقع شدوه في إذن، ولا يتصل نشيده بنشيد.
فكان سبيل الرسالة إذن أن تضم الأشتات إلى الأشتات، وتوفق بين الأصوات والأصوات،