ذكرنا في العدد الماضي حديث الوطنية لدى أبي العلاء، ورأينا حنينه للمعرة وللشام، وحبه لوطنه الذي ألقى رداءه على كل ما حوله حتى على نياقه التي تمنت قويقاً والصراة حيالها؛ والتي تلت زبور الوطنية المنزل عليها في أن الصبر عن الوطن غير حلال، ونريد الآن أن نتعرف الوطنية لدى شاعر الطليان، تلك التي نكاد نلمسها في كل ناحية من نواحي كوميديته. وكأني به يخلق المناسبات، ويتعمد الاستطراد ليتحدث عن إيطاليا وآلامها وأوصابها في عهده، وليتحدث عن خائني أوطانهم وبلادهم كذلك.
ولعلك على ذكر مما حدثتك به إبان استعراض طبقات الجحيم لديه عن الدرك التاسع الذي جعله مقراً لخائني أوطانهم، يشاركهم في تلك الطبقة إبليس ويهوذا الأسخريوطي. . أوليس في تسويته (وهو غرس الكنيسة) بين خائني الوطن وخائن المسيح وإبليس اللعين ما يجعلنا نكبر فيه وطنيته، ونعلم أي حد بلغه في حب بلاده؟
وسأستعرض شيئاً من نواحي الوطنية في كوميديته، تلك التي نتلمس الوطنية الملتهبة في كل ناحية من نواحيها، حتى لنظن أن الوطنية كانت أكبر الأسباب التي دعته أن يذبج رسالته. فكم تلمس دانتي الأسباب والمناسبات ليبكي مجد إيطاليا وحروبها الأهلية التي كانت تمزق أوصالها، وتفرق بين أبنائها. . فها نحن أولاء نراه يسير في الطبقة الثالثة من السعير، فلا تكاد تقع عينه على أحد مواطنيه (تشاكو) حتى يميل نحوه ويحدثه عن الوطن وعما أحاط به من ويلات ومصائب. وتشاكو بدوره ينسى الجحيم والعذاب، وينساق مع دانتي في حديثه، فيذكر له النزاع والفشل بين أحزاب فلورنسا.
وبينا هو يجوس خلال الطبقة السادسة من السعير، وبعد أن خلص من مدينة (ديتي) وشياطينها إذا هو أمام مواطن آخر اسمه (فاريناتا فيكرر على سمعه الحديث عن فلورنسا وأحزابها وحروبها حديثاً يخفق له قلبه، ويضطرب له جنانه.