ما أرهب ذلك الجيش السائر والبحر الزاخر والجمع الثائر يخوض غمار المعركة في عزمة رجل واحد وهمة قلب صادق فلا يلبث أن يكتب له النصر ويفوز بالغلب على من تفرقت بهم الميول والأهواء! وما أروع تلك الرءوس الحاسرة والأجسام شبه العارية تجتمع في صعيد واحد تسبح الله وتناجيه فلا تخشى بأس حر ولا برد، ولا تألم من صر أو قر! وما أخشع ذلك الناسك الذي حرم نفسه لذيذ الطعام والشراب واستطاب الخشن وغليظ الثياب، وضوي جسمه من طول الركوع والسجود، واحمرت عيناه من البكاء والسهر. كل هؤلاء قد استولت عليهم فكرة وتملكتهم عقيدة، فساروا وراءها طائعين، وائتمروا بأمرها راغبين لا راهبين
وكم من أفكار نسلم بها وآراء نوافق عليها ودعوات نصغي إليها، ولكن طائفة قليلة منها فقط هي التي تنفذ إلى قلوبنا وتمتزج بأرواحنا، فنُصبِح طوع إرادتها ورهن مشيئتها، وما ذاك إلا لأن الدعوات لا تتجه دائماً إلى القلب ولا تخاطب كلها الروح؛ فمنها ما يرمي إلى غاية مادية يتشبث من يرجو أن يساهم فيها بنصيب، ويطمئن إليها من آثر العاجلة على الآجلة. ومنها ما يقوم على الحجة والبرهان والبحث والتعليل، ولغة المنطق لا تلائم الناس على اختلافهم ولا يسمو إليها جمهورهم وعامتهم. لذلك كان أكثر الدعوات حظا من النجاح ألصقها بالقلب وأقربها إلى الفؤاد، وبقدر تفاوت الدعاة في القدرة على تحريك العواطف وإثارة الشعور تتفاوت آثارهم ويزيد أو ينقص عدد أتباعهم، وعن هذا الشعور تنبعث حرارة الإيمان المتأججة، ومن تلك العواطف يتولد صدق العقيدة الباهر، وفي القلب قوى خارقة للعادة وفي الروح أسرار تلين الحديد وتنسف الجبال ولا تبالي بصعاب
هناك ضربان من الإيمان لا سبيل إلى خلطهما ولا إلى إنكارهما: إيمان العقل وإيمان العاطفة، أو أن شئت فقل: إيمان البرهان والتعليل والحجة والدليل؛ ثم إيمان الشعور والإحساس والقلب والروح؛ في أحدهما هدوء التفكير ورزانة المنطق، وفي الآخر حمية الوجدان ونشاط العاطفة. ولئن كان الأول قد استنار بنور الحجة وقوى على مجالدة الخصوم ودفع الشبه، فإن الثاني ينبعث من قرارة القلب وأعماق الفؤاد ولا يرى نفسه في