الأصل في الكلام إنه وسيلة تتوسل به إلى الأعراب عما تريد أن يفهمه عنك غيرك، فهماً واضحاً جلياً لا لبس فيه ولا غموض. والكلام كله يشترك في هذا الأصل أو قل كان يشترك في هذا الأصل سواء منه ما كان شعراً وما كان نثراً، وسواء منه ما تحدث إلى العقل وما تحدث إلى القلب والشعور. فإذا خرج الكلام عن أصل البيان والتبيين هذا فكان فيه غموض أو التواء فمصدر ذلك قصور في المتكلم أو الكاتب أو قصور في السامع أو القارئ، عجز ذاك فلم يحسن الإعراب عما يريد، أو عجز هذا فلم يحسن الفهم لما لقي إليه. وقد يكون الغموض مقصوداً والالتواء متعمداً، لأن للكاتب أو الشاعر أو المتكلم غرضاً يدفعه إلى أن يتكلف الغموض ويتعمد الالتواء ولكن هذا الكلام الغامض الملتوي واجد على كل حال من يقرأه أو يسمعه فيفهمه فهماً صحيحاً مستقيماً.
هذا هو الأصل في الكلام ولكن يظهر أن الترف الفني الذي ترقى بنا الحضارة إليه، وتنتقل بنا في درجاته المختلفة يأبى أن يقر الأشياء في أصولها أو يدعها ميسرة لما خلقت له. فكما أن الأصل في الطعام والشراب الغذاء والري، ولكن الحضارة والترف قد خرجا بهما عن هذا الأصل إلى ما يتجاوز الغذاء والري، إلى غيرهما من اللذات التي يجدها الطاعمون والشاربون فقد خرج الترف الفني في هذه الأيام بالكلام عن أصله المألوف إلى شيءآخر غير البيان والتبيين، ونشأت طائفة من الكتاب والشعراء لا تكتب النثر ولا تقرض الشعر لتقول شيئاً واضحاً جلياً أو لتقول شيئاً ينتهي بعد الجهد والبناء إلى الوضوح والجلاء. وإنما تكتب وتنظم لتثير في نفسك ألواناً من المعاني وضروباً من الخواطر، ولتهيج في قلبك أشكالاً من العواطف وفنوناً من الشعور، تحسها فتلذ لها وتألم، وتبتهج لها وتضيق بها، وتفهمها حيناً وتعجز عن فهمها أحياناً، وتذهب مذاهب مقيدة غريبة متباينة في فهم هذا الكلام الذي يلقى إليك وتأويله وتخريجه فتقر ما تنتهي إليه ثم يبدو لك فتعدل عنه، ثم تقرأ هذا الكلام مرةً أخرى فإذا أنت تذهب في فهمه وتأويله وتخريجه مذاهب لم تكن قد ذهبتها من قبل، ثم تتحدث إلى من قرأ هذا الكلام نفسه فإذا هو يخالفك في الفهم كل