لبث التاريخ قروناً يتلوها قرون، وهو لا يحسب للشعوب حساباً، ولا
يعنى بحياة الإنسان قليلا ولا كثيراً، إنما ملئت سطوره وأفعمت
صفحاته بذكر الملوك والأمراء، فكان تاريخ الأمة هو تاريخ ملوكها،
أما سائر الطبقات، التي هي في الواقع لحمة الحياة وسداها، وهي
الإنسانية بأسرها، هي مبعث القوى والنشاط جميعاً، فكانت لا تظفر من
المؤرخ بسطر واحد فضلا عن صفحة أو كتاب.
بقيت الحال كذلك ما بقيت الشعوب بعيدة عن دوائر السيطرة والحكم، ثم ما كادت تنهض أوربا نهضة الأحياء، ويستيقظ الناس من ذلك السبات العميق، وتبدأ الديمقراطية الصحيحة تنشر ألويتها، وتجد سبيلها إلى صميم القلوب، حتى انقلب ذلك الوضع الخاطئ، واتخذ شكله المستقيم، وأصبحت الشعوب وحياتها عند التاريخ كل شيء.
ولكل انقلاب رسوله الأمين، ورسول ذلك الانقلاب في كتابة التاريخ هو فولتير، الذي يمثل في شخصه حلقة الاتصال بين العهدين، وجسر التطور بين المنهجين.
كان فولتير كثير القراءة والاطلاع إلى حد النهم، وكلما تقدمت به السن ازداد في ذلك إمعاناً وإدمانا، حتى احتوى في نفسه شطراً عظيما من عصارات الأذهان البشرية التي سبقته إلى الوجود، فلم يسعه أمام ذلك الإنتاج العقلي الغزير، الا أن يكبر العقل الإنساني إلى درجة التقديس، وقد أوحى إليه ذلك الإكبار أن يجرد قلمه للارتفاع بمكانته إلى أعلى عليين. فأخذت تلك اليراعة العبقرية تدبج الفصول التي تظهر فيها عظمة العقل ظهورا واضحاً لا يخطئه النظر، ثم تطورت عنده تلك النزعة فولدت في نفسه عنصراً جديداً، هو حب الإنسانية والفناء من أجلها، فأخذ يسمو بها بمقدار ما يصب غضبه ونقمته على أيدي الجهالة السوداء التي اعترضت سبيل تقدمها، وكانت عثرات في طريقها. هذا التقديس للعقل وللإنسانية، وهذا السخط الذي أراد أن يسحق به عوامل الجمود على اختلاف ألوانها، كان أول عنصر جديد أدخله فولتير في كتابة التاريخ.