كان من أثر الاتجاه المادي الحديث في فهم حوادث التاريخ وتعليلها أن أصبح المؤرخون أشبه شيء بالفلاسفة الكلبيين القدماء الذين كانوا يجردون الإنسان من عاطفة الخير، ويعتقدون أنه أناني بطبعه، لا يصدر عنه الخير إلا رئاء ونفاقاً، ولكن من حسن حظ الحقيقة والفضيلة أن بعض أحداث التاريخ يكذب هذه الدعوى وينقضها نقضاً صريحاً، ولست أجد في التاريخ الإسلامي انقض لتلك الدعوى وأشد تكذيباً من حديث الهجرة التي وقعت زمن النبوة، سواء أكانت هجرة الحبشة أم الهجرة إلى المدينة، ففي كلتا الهجرتين تجد الإخلاص للعقيدة مجسماً محسوساً، والتنزه عن حطام الدنيا واضحاً ملموساً. وإلى القارئ أسواق المقال الآتي توضيحاً لهاتين الهجرتين في ضوء الحياة العامة التي ابتعثتهما وأدت إليهما
لقد حمل الإسلام من أول الأمر على ما كان لقريش من نظم بالية عتيقة حملة عنيفة لا مواربة فيها ولا هوادة. فكان محمد يقرع أسماع قومه بما يتنزل عليه من القرآن ناعياً عليهم وثنيتهم المنحطة، ونظامهم الاجتماعي الذي فرقهم أغنياء وفقراء وسادة وعبيداً، مهجنا تكثرهم بالاحساب والأنساب، مقبحاً طرقهم الملتوية في المعاملات من تطفيف الكيل والميزان وأكل أموال الناس بالباطل. محذراً لهم إن هم أصروا على عتوهم واستكبارهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم من قبلهم عندما أعرضت عما بعث به إليها الرسل من أسباب الهداية والأصلاح.
لم يجب هذه الدعوة التي تكلفت بخيري الدنيا والآخرة إلا فريق قليل العدد وسيط المكانة في المجتمع القرشي. أما الملأ من قريش فرأوها دعوة صريحة إلى الفوضى وقلب الأوضاع. ورأوا في محمد ثائراً يريد هدم النظم التي درجت عليها الجمهورية المكية من قديم. ثم من يدريهم لعلهم إن هم اتبعوه التات عليهم الأمر واضطرب الحبل، فان الهدم عادة أيسر من البناء. تلك كانت حجتهم في عدم متابعته، وهي حجة الجامدين على المصلحين في كل زمان ومكان.