وكان موقف قريش من محمد أول الأمر سلبياً محضاً. ولكن محمداً كان النشاط واللباقة والفصاحة وقوة الخلق مجتمعة، فوجدت قريش نفسها بازاء رجل لا كالرجال، وخصم ليس كغيره من الخصوم، فهي إن لم تعاجله عاجلها، وإن لم تقض عليه قضى عليها. لذلك أخذت تنهج في مقاومته خطة إيجابية تدرجت فيها تدرجاً. فكانت أول الأمر تستهزئ به وبدعوته وبمن اتبعه، فهو شاعر وساحر ومجنون، ودعوته إنما هي محض خداع وغرور، وأتباعه ليسوا إلا أراذلها وسفلتها، ثم جعلت تحاول إعجازه ومعاياته. إن يكن صادقاً فيما يدعى فليحول جبال مكة جناناً وأنهاراً، أو فليكن له بيت من زخرف، أو ليرق في السماء، أو فليسقط السحاب عليهم كسفاً، أو فليأت بالله والملائكة قبيلاً. ثم انتقلوا من هذه المعاياة الدالة على قصر عقولهم إلى التعريض له بالمال والسلطان. فلما أعيتهم فيه الحيل ورأوا وقوف عشيرته دونه أخذوا يفتنون أصحابه بالأذى والعذاب. فمنهم من كان يثبت على رأيه وعقيدته، ومنهم من كان يفتتن من شدة البلاء.
عند ذلك أمر الرسول أصحابه بالهجرة التي هي آخر ما يلجأ إليه المحق الضعيف في مقاومة المبطل القوي. أمرهم بالهجرة إلى أرض الحبشة فهي أرض قديمة الصلة بمكة، وبها ملك نصراني رشيد لا يضام من يلجأ إليه ويحتمي بحماه.
فخرج من مكة في شهر رجب من سنة خمس للنبوة زهاء مائة مسلم ومسلمة، وكلهم جاز البحر الأحمر من الشعيبة إلى بر الحبشة، فتلقاهم النجاشي لقاء حسناً وأذن لهم في المقام بأرضه آمنين على دينهم وأنفسهم. وقد أبى أن يخفر ذمته لهم عندما أرسلت إليه قريش في رد اللاجئين إليه. فلما تبدلت الأحوال بالحجاز وعلا شأن الإسلام به جعل هؤلاء المهاجرون يعودون إلى الحجاز. وكانت عودة بقيتهم إلى المدينة سنة سبع للهجرة أي بعد أن لبثت بأرض الحبشة نحو خمسة عشر عاماً. وقد جزت الرواية الإسلامية النجاشي عن صنيعه هذا بأن اعتقدت إسلامه، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى عليه عندما بلغته وفاته.
ولما رأت قريش خروج من خرج إلى الحبشة من أصحاب محمد أرادت أن تحسم مادة الخطر فاجتمعت كلمة ملئها على حبس محمد وعشيرته من بني هاشم والمطلب في بعض شعاب مكة، وعلى أن يقطعوا كل أسباب الاتصال بينهم وبين جمهور قريش، وقد أنفذت