عودة يوم الهجرة للنفوس المؤمنة، كعودة الربيع للجسوم الحية. فالربيع ينشر في الكون الحياة والجمال، فيتجدد البالي، وينتعش الذاوي، ويبتهج الكئيب؛ ويوم الهجرة ينشر في القلوب النور والجلال، فيقوى الخائر، ويهتدي الحائر، ويتذكر الغُفلان. وإذا كانت الحواس لا تنتفع بالربيع إذا لم تكن شاعرة، فإن النفوس كذلك لا تنتفع بمعنى الهجرة إذا لم تكن ذاكرة. والذكرى تنفع المؤمنين إذا اقتبسوا منها الهداية والتمسوا فيها العظة؛ أما إذا كان قصارى أمرنا في الاحتفال بحوادثنا الكبرى، وشخصياتنا العظمى، أن نكتب ونخطب فما أصبنا الغرض.
إن ذكرى الهجرة هي ذكرى وضع الأساس لهذا البناء الإسلامي الشامخ الذي أنبسط ظله على أكثر الأرض، وانتشر نوره في ظلام الوجود، وأوت الإنسانية منه إلى ركن شديد بالعلم، أمين بالعدل، منيف بالحضارة؛ فالمسلمون أحرياء أن يجعلوا احتفالهم بهذه الذكرى العظيمة تقديساً للدين الذي كانت في سبيله، وتمجيداً للمبدأ الذي قامت عليه، وتأييداً للشرع الذي تكشفت عنه. وتقديس الدين هو الانقياد له، وتمجيد المبدأ هو الإخلاص فيه، وتأييد الشرع هو العمل به. وما كان الناس في عهودهم الخالية بأحوج إلى هدى الله منهم في هذا العهد؛ فقد طغت فيه المادية على الشعوب حتى تعادت، وأفرطت القوة على الدول حتى تفانت، وغررت المذاهب الإلحادية بالإفهام السقيمة فلبّسوا على الناس الحق، وشبهوا على القادة الطريق، حتى زلزلت الأرض بمن عليها، وخشينا على صرح المدنية والفضيلة أن يَنقضْ.
ذلك إيذان من الله للناس بأنهم فسقوا عن أمره فجافتهم رحمته، وحادوا عن سبيله فحق عليهم عذابه. (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).
لا يكشف عنا ما غشينا من هذه الغمة العميمة إلا العمل بشريعة الإسلام والاحتفاظ بتقاليد الشرق الصالحة. والرجوع إلى شرع الله في أمور الدنيا من بدائه العقل وموجبات الفطرة؛ لأن الله جلت قدرته هو الذي خلق الناس ودحا الأرض، فهو أعلم بغرائز خلقه وأسرار كونه؛ وهو أعلم بما سينشأ عن تصادم الغرائز من نزاع، وما سيشتد على خيرات الأرض