انتهينا في مقالنا إلى أن ابن سينا يمكن اعتباره قائلاً بأن البعث روحي فقط؛ وأبنا أن المطاف حول نصوصه في هذا المقام - أخذا من الشفاء، والنجاه، والإشارات - ينتهي، رغم تضاربها إلى إنكار البعث الجسماني.
لكن في تأريخ الفكر الإسلامي، ما كان ليقنع ابن سينا في موضوع خطير كموضوع البعث، بادعاء قصاراه الإمكان والتجويز، أو الترجيح وغلبة الظن. ليس معه من الشواهد والأدلة - حتى في نظر صاحب الادعاء - ما يسمو به إلى مصاف النظريات العلمية.
وقد كان ابن سينا عند ظن العلم به، فلم يقنع هو من نفسه، كما لم يقنع منه العلم، بهذه الوقفة الحائرة، فراح يشرع قلمه ليديح عصارة فكره في هذا المقام.
وقد دلنا البحث والتنقيب على أن له في هذا الموضوع كتابين:
أحدهما يعرف ب (رسالة في المبدأ والمعاد).
وثانيهما يعرف ب (رسالة أضحوية في أمر المعاد)
وإذا كان ابن سينا قد أفرد كتابين لموضوع كهذا جرت عادة غيره بأن يتكلم عنه كلاماً، يعد وافياً في بابه، ضمن كتاب لا في كتاب مستقل ولا في كتابين، كان الأمل قوياً في أن يتكشف ابن سينا على حقيقته في هذه المسألة، وأن ينجلي الموقف عنده فيها انجلاء، لا يبقى معه مجال لهذه البلبلة الفكرية التي أوحت بها كتبه الأخرى، بما تحمل من أفكار متضاربة، وأراء متنافرة متعارضة.
رجعت إلى أول الكتابين فإذا هو يقول في مقدمته:(. . . وبعد فإني أريد أن أدل في هذه المقالة على حقيقة ما عند المشائين، بين المحصلين من حال المبدأ والمعاد، وتقربا به إلى الشيخ الجليل أبي أحمد بن إبراهيم الفارسي. . . الخ).
ولما كانت قد عرفت رأي ابن سينا في المشائين، وأنهم عنده من عامة المتفلسفة، لا من خاصتهم، وأنه كان ينجو نحوهم ويؤلف على غرارهم حين يكتب للعامة؛ أما الخاصة فإنه يدخر لهم أراء أخرى مخالفة لأراء المشائين كثيراً من المخالفة، يودعها كتباً يختصهم بها