كان ذلك في ليلة من ليالي الحرب الكبرى وفي شطرها الأخير، وكنا يومئذ لا نعلم من أهوال ذلك الصراع العنيف إلاّ ما يستطيعالصغار - وما رُكّب في رءوسهم من عقول محدودة - أن يعلموا. فلم تكن الحرب عندنا إذ ذاك إلا تلك القترة وذلك الوجوم يعلوان وجوه الكبار، وإلا ذلك القلق المقيم في اللحاظ، وتلك الهمسات يتبادلونها فيما بينهم، ولا ينُون في التلطف حيناً والمخاشنة حيناً آخر، ليصرفونا عن الاستماع والإصغاء إليها. ولكنها كانت محاولات فاشلة، إذ ليس شيء أعلق بنفوس الصغار وأخلب للبّهم وألصق بخيالهم وأدعى لفضولهم من حديث يتسارُّ به الكبار فيما بينهم، ثم يُراد لهم ألا يُلمُّوا منه بشيء. فكنا - لنرضيهم ونأمن مناكدتهم - ننأى ونصد عنهم لاعبين ظاهراً، وننكفئ عليهم بالسمع نرهفه لنلتقط ما يتسارُّون به ويتهامسون. فلم يكن يفوتنا شيء من أحاديثهم عن الحرب، وما يقدرونه لها من استطالة، وما يترقبون من مفاجآت، وما يخشون من عواقب، وما يتوجهون به من عطف، وتمنى الانتصار لهذه الدولة أو لتلك.
على أن أظهر ما كان يبدو من آثار الحرب هو ما كنا نلمحه من مظاهر الفاقة والحاجة إلى الغذاء؛ وهو أثر ليس للتجمل والابتسام المقسور عليه حيلة. فالحزن والغضب، والحب والفرح، والبغض والعطف، والكره والحقد والخوف، جميعهاً يستطيع المرء بالمران والممارسة أن يروض نفسه على إخفائها، بل والظهور معها في عكس مظاهرها الصحيحة. ولكن الجوع إذا أزمن لا يستطيع وجه أن يخفيه مهما رُزق صاحبه من قدرة على الإخفاء وحيلة في التمويه.
أقول: كان هذا أكثر مظاهر الحرب بُدُوّاً عندنا وأشدها بروزا: وماذا ينتظر ممن كان في سننا وفي مثل خبرتنا غير هذا؟ وهل كان بوسعنا أن نستشرف من حوادث ذلك النضال غير هذا الأثر الذي لم يستجد علينا مع الحرب غيره؟ في الحق أننا لم نكن نعي من معاني