تلك الحرب في ذلك الحين سوى أنها شدة تقاسي فيها المعدة وتوابعها أشد ما يقاسي، وهي نظرة لم تكن من الضحولة وقرب الغور على قدر ما حسبنا لها فيما بعد، حينما بدأنا نقرأ عن الحرب في بطون الكتب وفي ثنايا الخطب! وهذا في الحق مما يُحسب للطفولة من بداهة مسدَّدة وإلهام صادق. ومن منا يشك بأن أقسى ما قاساه الناس عموماً في الحرب هو الجوع، حتى بين الجنود الذين كانت تشويهم نيران المدافع وتجزّئهم قذائفها!
أوينا إلى فراشنا ليلتئذ على هدهدة قبضة من الأخبار المتناقضة عن الحرب مما ترشَّح إلى البلدة النائية. وكنا نتلقى هذه الأخبار في كثير من الاستمتاع واللذة. وما هو إلا أن أغمضنا أجفاننا حتى نُقلنا من عالم الواقع المنغص إلى عالم الأحلام والرؤى اللذيذة: من عالم الحرمان إلى عالمالرغائب المحققة والمتع الدانية. فكان لنا من شهي الحلوى التي حرمتنا الحرب ما نشتهي، ومن طريف اللعب التي غابت مع الحرب ما نختار. على أنها كانت لعباً من نوع آخر غير الذي ألفنا. فهي لعب صورها مشتقة ومؤلفة من الأوصاف التي كانت توصف بها أدوات الحرب يومئذ: طيارات تئز في الفضاء، وسيارات تنهب الأرض وتتخطف الأميال، ودبابات تجوز الوهاد وتتخطى العقبات، وأمور أخرى شتى. وكنا في يومنا يشنُّ بعضنا الغارات على بعض، وسلاحنا هذه الأدوات التي أعارها لنا الخيال، فلم يكن يكلفنا اقتناؤها جهداً ولا نقدا، إلا أنها متع لم تدم، وأحلام رُوّعت؛ فقد هببنا مذعورين بعد موهنٍ من الليل على طرق يُوالي دراكاً على باب أحد الجيران. وأصخت بملء جوارحي أتبين ضوضاء السيارات وقعقعة المدافع، ورغاء الطيارات، فيتصل ما بين يقظتنا والمنام: وهي الصورة التي تبادرت حالاً إلى الذهن بعد ذلك الليل الحالم وبعد تلك الانكسارات والانتصارات التي عالجناها نياماً.
وأطللت فيمن أطلَّ من خصاص الباب نتبين الأمر ونجتلي الواقع، وكلٌّ في ذهنه - على ما أقدّر - صورة تباين ما في ذهن الآخر تبعاً لأول بوادر الخيال المروَّع والبداهة المجفلة. ولم نلق صعوبة في تبين الطارق؛ فقد كانت ليلة قمراء فائضة النور كشفت لنا عن شخص في بقية أثواب لا ينفكُّ يقرع الباب بجُمع يده قرعاً فيه عنف وفيه شدة، يصيح بين الفينة والفينة في نبرات شديدة يطلب فيها فتح الباب ممن كان وقتها وراء الباب
أما صاحبنا الذي كان الطارق يقصده بالطرق، وبهذه الصيغة الآمرة بفتح الباب، فقد ذهب