لا يسعك وأنت تجول في ميدان الدراسات النفسية الحديثة، وتخوض في بحر الثقافة الأوربية الخضم، إلا أن تعترف لعباقرة العرب بفضل السبق في هذا الميدان، وتؤمن إيمانا بأن في التراث العربي العريق كنوزا مطمورة تحتاج إلى من ينقب عنها، ويخرجها من كهوف النسيان إلى عالم النور والعرفان
لقد كان علم النفس القديم يرى أن إدراكنا للعالم الخارجي يبدأ بالأجزاء والتفاصيل، ثم يربط بين بعضها وبعض حتى يتألف الكل، فأنت - على هذا الزعم - حينما ترى الشخص تبدأ في إدراك أجزائه أولاً (شعره. عينيه. فمه. . . الخ) فإذا كررت النظر أدركت الشخص في جملته وهيئته. وعلى هذه النظرية كانت التربية التقليدية إلى عهد قريب، تبدأ في تعليم الرسم بالخطوط والمنحنيات والدوائر والأشكال الهندسية ثم تنتقل بعد ذلك إلى رسم القصص والحوادث والمناظر الطبيعية، وعلى هذا الأسلوب سرنا ولا زلنا نسير في تعليم القراءة والكتابة على الطريقة الأبجدية، فنبدأ بتعليم الطفل حروفا ثم كلمات ثم جملا، ضاربين صفحا عن كل أساس سيكولوجي أو تربوي
فلما ظهر علم النفس الحديث، وبزغت في أوائل القرن العشرين (مدرسة الصيغ الإجمالية) قلبت هذا الوضع رأسا على عقب، وقامت بتجارب شتى دلت كلها على أن الإدراك عند الحيوان والإنسان يسير من المجمل إلى المفصل، ومن الكلي إلى الجزئي، على العكس مما تقول التربية القديمة، فلو أنك ألقيت نظرة على شخص أو على صورة، لكان أول ما تراه من الشخص شكله العام، وأول ما تأخذه عن الصورة انطباعا مجملاً عاماً، فإذا أطلت النظر والتأمل، أودعتك ضرورة عملية إلى التحليل، أخذت تفاصيل الشخص أو الصورة تثب إلى عينيك واحدة بعد أخرى
والإدراك الإجمالي أكثر ما يكون وضوحا وبروزا عند الأطفال والحيوان، فالطفل لا يحلل الأشياء في إدراكه، وليست به حاجة إلى التحليل، والعنكبوت لا يعرف الذبابة أن قدمت إليه لا على نسيجه، بل في مكمنه الذي يتربص لها فيه، كأن الذبابة جزء من كل، أن انفصلت عنه لم يعد لها معنى. ومن أجل ذلك اختلفت الأفراد في نظرها إلى الأشياء،