للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فنظرة الفنان إلى اللوحة الفنية غير نظرة الرجل العادي، لأن الأول يدرك من تفاصيلها ودقائقها ما لا يدركه الثاني، ونظرة الفلكي إلى السماء ليست كنظر سائر الناس

وقد أجرى العالم النفساني (كهلر) تجارب على الدجاج أيد بها أن الكل سابق لأدراك أجزائه، فقد وضع بعض الدجاج في أقفاص تسمح لها بإخراج رؤوسها لتلتقط الحب من لوحة أفقية، ووضعت على اللوحة ورقتان رماديتان: إحداهما فاتحة والأخرى داكنة، وكلما حاولت دجاجة التقاط الحب من الورقة الفاتحة طردت، ومن الأخرى تركت، حتى تعلم الدجاج الالتقاط من اللون المقصود بعد (٦٥) تجربة، ثم استبدلت الأوراق الفاتحة بأخرى أشد سوادا من الأوراق الداكنة. فبادر الدجاج إلى الالتقاط من هذه الأوراق الجديدة، وهذا دليل قاطع على أن الدجاج لم يدرك كل لون على حدة، بل أدركه بالنسبة إلى الشكل الذي يضم اللونين معا، ولو كان يدري كل لون على حدة لأستمر يلتقط الحب من الورقة التي تدرب على الالتقاط منها. وقد أحدثت هذه النظرية انقلابا خطيرا في التربية الحديثة، واستفاد منها المربون في أسلوب التربية والتعليم كما فعل العالم البلجيكي (دكرولي) في تعليم القراءة والكتابة، حيث سار على الطريقة السيكولوجية، فبدأ بالجملة ثم بالكلمة ثم انتهى إلى تعليم الحرف، وأخذ الفنانون ومدرسو الرسم يبدءون في تعليم الطفل برسم الحوادث والقصص والمناظر الطبيعية لأنها تلائم نفسية الطفل وعقليته على عكس ما كانت التربية القديمة

هذا ما ذكره علم النفس الحديث. وقد تراءى لي بعد البحث والتروي أثناء دراساتي بالعيادة السيكولوجية بمعهد التربية أن هذه النظرية على جدتها وقرب عهدها بالعصر الذي نعيش فيه ليست بالنظرية المبتكرة، ولا هي بالرأي المخترع - كما يدعي بعض علماء أوربا المعاصرين - فلقد سبق إليها عبد القاهر الجر جاني إمام البلاغة في عصره، منذ تسعة قرون. ولعلك تغرق في الإعجاب إذا علمت أنه لم يخرم من هذه النظرية حرفا واحداً. . واليك ما ذكره عبد القاهر الجر جاني في كتابه (أسرار البلاغة) وكان في معرض الحديث عن التشبيه البليغ (إنا نعلم أن الجملة أبدا أسبق إلى النفوس من التفصيل، وأنك تجد الرؤية نفسها لا تصل بالبديهة إلى التفصيل، ولكنك ترى بالنظر الأول الوصف على الجملة، ثم ترى التفصيل عند إعادة النظر، ولذلك قال العرب! النظرة الأولى حمقاء، وقالوا لمن

<<  <  ج:
ص:  >  >>