للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[حديث]

بقلم الأديب أحمد الطاهر

نفض يديه الشريفتين من غبار الحرب وجلس إلى أصحابه وقال: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.) قول على سهولة وضعه، وبساطة لفظه، يدل على فهم وثيق للحياة، وإدراك عميق لأسرارها، ووزن صحيح لحقيقتها. وهو يدل من ناحية على عظمة هذه النفس النبوية التي وازنت بين جهاد الغزو، وكفاح الحرب، - وفي ذلك ما فيه من كرب وبلاء - وبين جهاد الإنسان في الحياة تلقاء ما يلقى من خطوبها، وأحداثها، وصروفها، واعناتها، وما يفرض عليه فيها من حقوق لا مندوحة عن أدائها، فأدرك رسول الله وقال إن الحرب جهادها أصغر، وإن الحياة جهادها أكبر، وإن جهاد الأبدان هين يسير، وجهاد النفوس شاق عسير، وإن جهاد الغزو محدود بوقته قصر أو طال، وجهاد الحياة يبدأ بالحياة وينتهي بانتهاء الآجال

وفي كلمة رسول الله تحديد لما بين النفوس والأبدان من صلة تجعل للنفوس على الأبدان سيطرة وسلطاناً، وتسخر الأبدان للنفوس فيما توجهها إليه من غايات ومقاصد

وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام

وكلما علت النفوس سمت أغراضها، وجلت مآربها، فاشتد الجهاد والنضال بينها وبين ما يتكاءدها في سبيل الحياة من عقبات وحوائل، حتى يصبح جهادها عنيفاً حاراً يهون إلى جانبه جهاد الغزو على ما فيه من سفك للدماء

ولا جدال في أن صاحب السلطان والأمر ومن اضطلع بتدبير شؤون الرعية والقيام على حقوقها، والذود عنها يلقى عناء ومشقة وعسراً، يتضاءل أمامها ما يلقاه أوزاع الناس وعامتهم ممن ليس عليهم من الأمر إلا أن يسخروا أبدانهم لنيل غرض أو بلوغ مقصد

أدرك رسول الله أنه وقد خرج من ميدان الغزو ونفض عن نفسه وعن أصحابه نقع الحرب، سيلقى ميدان جهاد أوسع وأرحب وأكثر عناء وأشد بلاء، أليس عليه بعد هذا الغزو من أعباء الدنيا والدين، ما لا يقوم به إلا أولو العزم المتين؟

أليس عليه أن يقر هذا النصر الذي أحرز، ويرجع الأمور إلى نصابها في السلم بعد أن نبت بها مواضعها في الحرب؟

<<  <  ج:
ص:  >  >>