كان الفقهاء الأولون من المسلمين مثلاً عليا في النشاط العلمي، والتفكير العقلي، والجرأة على الدراسة والشجاعة في مواجهة الحقائق. درسوا كتاب الله وسنة رسوله، وفهموا مقاصد الشريعة، وأدركوا أسرارها، وعرفوا أحوال عصرهم، وعادات قومهم، واجتهدوا ما وسعهم الاجتهاد، ولم يقصروا في ناحية من نواحي النظر، حتى ملئوا طباق الأرض علماً، ووسعوا دائرة الفقه، وجعلوا من مباحثه صوراً تمثل حياة الناس في عصورهم تمام التمثيل، ونشروا علمه الخفاق على دور الحكم والولاية والقضاء، ومراكز الإدارة والسياسة ودوائر الأموال والأعمال!
ثم دار الزمان دورته، وجاءت من بعد ذلك عهود ركدت فيها ريح الفقه، وغلقت أبواب الاجتهاد، وأصبح الفقهاء رواة لمن كانوا قبلهم يرددون أقوالهم، ويشرحون عباراتهم، ويدرسون ألفاظهم، ويتعصبون لمذاهبهم، وابتعدوا بالفقه عن الحياة الواقعية، واحتفظوا منه بصور أثرية تتحدث عن عصور منقرضة وتصف أحوالاً مندثرة؛ وكان من آثار ذلك نفور أهل الحكم والسلطان منه لشعورهم بأنه على صورته التي صار إليها لا يلبي حاجات الأمم، ولا يصلح عيوبها، ولا يحل مشاكلها. وكان من آثار ذلك أيضاً أن انقطعت الصلة بين أهله وبين المجتمع، إذ أصبحوا غرباء عنه، يعيشون في واد غير واديه، ويدرسون أحوالاً غير أحواله. ثم كان من آثار ذلك أن دخلت التشريعات الأجنبية على بلاد المسلمين؛ فأصبحت دستور الحكم، وأساس الإدارة، وقانون القضاء، وعماد النظام في كل ناحية من نواحي الأعمال!
هكذا كان الفقه وهكذا صار!
كثيراً ما أسأل نفسي: هل كان الفقهاء الأولون طرازاً غير طراز سائر الناس؟ هل منحهم الله ما لم يمنحه أحداً من بعدهم، فآتاهم من العقل ما لم يؤت العقلاء، رزقهم من صحة الفهم وقوة الإدراك ما لا ينبغي لأحد بعدهم من ذوي الفهم والإدراك؟ هل فتحت كنوز العلم والمعرفة والنظر عنصراً من الزمان ثم غلقت أبوابها وأحكم رتاجها فلن تفتح بعد ذلك لأحد من العالمين؟