للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إني أحب هؤلاء الفقهاء وأجلهم ولكنني مع ذلك لا أستطيع أن أجيب عن هذه الأسئلة (بنعم) لأن فضل الله أوسع من أن يقصر على زمان دون زمان، أو يختص بقوم دون آخرين

لا أستطيع أن أجيب (بنعم) لأن كتاب الله خالد، والخطاب به عام لجميع الناس سواء منهم المتقدمون والمتأخرون: كلهم مطالبون بأن يتدبروه ويعقلوا هدايته، ويدركوا أسراره، ويلقنوا منه حجة الله على عباده، وينتفعوا به في دينهم ودنياهم. ولو جاز أن تقف العقول البشرية عن متابعة هداية الله، وعن تدبر كلمات الله، لما قامت حجة الله على المتأخرين من الناس كما قامت على المتقدمين منهم، ولما كان هنالك فائدة علمية في أن يضمن الله الحفظ والخلود لكتابه الكريم!

إذن فما بالنا قد حرمنا أنفسنا هذا المتاع العقلي، وهذه اللذة الفكرية فلم ننظر نظروا، ولم نجتهد كما اجتهدوا؟ بل لماذا رضينا أن نكون صدى لهم في كل شيء حتى لنستشيرهم ولا نستشير عقولنا في أحوال شهدناها وغابوا عنها، ورأيناها رأى العين وتوهموها؟!

(شروط الاجتهاد) هي التي قضت علينا بذلك! نعم شروط الاجتهاد التي تصورها أهل العلم من المتأخرين شيئاً هائلاً رهيباً، وأسرفوا في تقييد أنفسهم وتقييد الناس بها، وأقاموا منها حجاباً بين العقول وما أوسع الله لها من مدى في التأمل والتفكير!

أبى المتأخرون إلا أن يجعلوا للاجتهاد شروطاً، ثم زعموا للناس أن هذه الشروط صعبة لا يستطيعها أحد، كثيرة متشعبة لا تكاد تجتمع لأحد، فأغلقوا باب الاجتهاد، وأوجبوا على الناس أن يقلدوا، ثم لم يكتفوا بذلك حتى أوجبوا عليهم تقليد فقهاء معينين، يتعصبون لهم، ويزعمون أنهم أولى بالاتباع من غيرهم، ولكن أقوالهم اضطربت في ذلك اضطراباً يثير الظنون، ويغري بالتهم: فقالت طائفة منهم: لا يجوز لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر. وقالت طائفة أخرى: لا اختيار بعد الأوزاعي وسفيان. وقال قوم: ليس لأحد أن يختار بعد الشافعي. وقال آخرون: ليس لأحد أن يختار بعد المائتين من الهجرة. ولما اشتهرت المذاهب الأربعة المعروفة وكان لها أتباع ومتعصبون يخشى بعضهم كيد بعض، اصطلحوا فيما بينهم على أنه لا يجوز تقليد أحد سوى هؤلاء الأئمة، فجعلوا لحكمهم أثراً رجعياً ينسحب على جميع الفقهاء الذين اجتهدوا، فلم يعد لأحد أن يأخذ بقول الليث أو

<<  <  ج:
ص:  >  >>