قال لي صاحبي: كان ذلك منذ سنوات، والشباب نضير، والإهاب غض، والعود ريان، والزمان مبتسم، والحياة مشرقة؛ والقلب - إذ ذاك - معطل من نزوات الطيش. والفؤاد خلو من نزعات الحمق، والروح عارية من دفعات النزق، وأنا - حينذاك - أب وزوج. ولا عجب فلقد عشت عمراً من عمري قنوعاً أرى الدنيا حوالي تموج بالهوى والغرام، وأنا على حيد الطريق أنظر إلى الركب فلا أستطيع أن أمد يداً ولا لساناً لأني رجل ريفي النشأة قروي المربى، طبعتني روح الريف بسمات الخجل والانزواء، وموهت تعاليم الدين الحياة في ناظري فصبغتها بأفانين من الألوان القاتمة كبلتني بقيود زائفة ورثتها غصبا فدمغتني بالتزمت والانطواء، ثم اختار لي أبي الزوجة على نسق حرمني حق الاختيار والرأي، في حين أني كنت موظفاً في الحكومة أبدو رجلاً بين الرجال، فعشت إلى جانبها لا أشعر نحوها إلا بالسيادة والسيطرة، ولا تحس هي نحوي إلا بالخضوع والاستسلام، وانطوت الأيام.
وشعرت بأنني أعيش هنا - في القاهرة - غريباً لا أجد أهلي، وهم في القرية، ولا أستطيعأن أختمر في خضم المدنية، وأنا ريفي الروح، ولا أن أعاور زملائي في الديوان أسباب المتعة واللهو، وأنا أنكمش على نفسي وعلى ديني، فرحت أهيئ السلوى والعزاء في الدار، وأداري نقصي باللباس الأنيق والمسكن الجميل وعندي الخفض والسعة فلا تعوزني المادة ولا ينقصني المال
هذه الحياة الرتيبة كانت بغيضة إلى نفسي لأنها تبعث في الملل والضيق، وتنفث في الفراغ والدعة؛ فلا أجني اللذة في معترك الحياة ولا أرشف السعادة من تقلبات العيش؛ فركد ذهني وانحطت خواطري ووهى عقلي، ولكني لم أجد عنها مصرفاً إلا في أن أتنقل من مسكن إلى مسكن وأفزع من دار إلى دار لا أحس الهدوء ولا القرار.
وأستقر بي القلق - آخر الأمر - في مسكن من الطبق الثالث من عمارة ضخمة
وفي ذات صباح، خرجت - كدأبي - إلى عملي في الديوان، فما رعاني إلا أن أرى نفسي - على حين فجأة - قبالة فتاة هيفاء القد ريانة العود مشرقة الجبين ريقة الحسن، تختال في