تلقى صديق الأستاذ أنور المعداوي رسالة حملتها إليه (حقيبة البريد) من السيد حسني الشريف وفيها أن قطرة من قطرات نداي سببت له مشكلة يرجو لها حلاً، وخير القطرات عندي تلك التي تثير المشكلات. أما القطرة فهي إنني خفت على الذين يقضون السنوات في المطالعات ولا يكتبون أن يصابوا وقد غصت النفس بما فيها ولم تجد لها منفذاً، بالاستسقاء الذهني والاختناق ودعوتهم إلى الكتابة والتعبير عما يجيش في نفوسهم بين الحين والحين، ويقول المراسل إنه لا يستطيع أن يعبر بما يرضي الأديب الكبير فهل يكف عن المطالعة وهو يحبها؟
أنا حين أقول للسيد حسني الشريف وأمثاله الذين يطالعون ولا يكتبون: إكتبوا كلما قرأتم لكي لا تصابوا بالاختناق وبما سميته الاستسقاء الذهني لا أطلب إليهم أن يأتوا بما يأتي به هوميروس وشكسبير وهيجل وملتن فللتعبير ألف وجه ولون وأسلوب ويكفي أن يعبر المرء عما يجول في صدره بالطريقة التي تلائم مزاجه وذهنيته وقالبه الوراثي وما انتهى إليه عقله وقلبه بحيث يأتي التعبير صدى للصوت الخارج من أعماق النفس ولكل نفس طبقاتها وأعماقها ولونها وهيكلها وجذورها وهواتفها وأرحامها، ومتى عبر المرء بطريقته الخاصة نفس عن نفسه وظهر بوجهه الذي خلق له ولم يستعر وجه غيره وأقبح الوجوه الوجه المستعار وأمن شر ذلك الداء، داء الاستسقاء. . كل يعبر بلسانه وأسلوبه فللأسد زئيره وللعصفور تغريده وللحمام هديله وللاقواس حنينها وللورود شذاها وللرعد هزيمة وللبركان حتمه، وليست القرائح كلها براكين، ومن الخير أن لا تكون كلها براكين ليظل للعبقرية ندورتها وللموهبة مكانتها، وفي كل قريحة تنفجر شيء من البركان وإن كانت لا تطلق المعجزات والروائع.
وإني لأعجب لمن يسلخ الساعات الطوال من نهاره وليله في المطالعة كيف لا يثير فيه ما يقرؤه ويتمثله قوة التعبير ويوقظ ما رقد في نفسه وتلك الخواطر والرسوم التي يلقي بها المؤلفون في ساحات النفس وأعماق العقل والخيال والشعور بذور صالحة للنمو وكائنات حية لها أعصابها وطرقها وأيامها وحيويتها التي تأبى إلا أن تشق لها المنافذ إلى أهدافها. .