لا أستطيع أن أصور للقارئ مبلغ دهشتي عند ما وصلت إلى باريس وسألت في السربون عن لسانس الأدب الفرنسي فاخبر أن هذا شيء لا وجود له. فأنت لا تستطيع أن تحصل من الجامعات الفرنسية على ليسانس في آدابهم وإنما هناك شيء اسمه ليسانس الكلاسيكي، وهو يتكون من أربع شهادات عليا كل منها منفصلة عن الأخرى تمام الانفصال. ولك أن تبدأ بالتقدم لأيها شئت وفي أي سنة تريد بعد تمضيتك للسنة الأولى بالجامعة. وهذه الشهادات هي: اللغة اليونانية القديمة وآدابها، وشهادة اللغة اللاتينية وآدابها، وشهادة اللغة الفرنسية وآدابها، وأخيرا شهادة فقه هذه اللغات النحوي وإذن فلا يستطيع أن ينال ليسانس، أي إجازة التدريس في الأدب إلا من يعرف اللغتين اليونانية واللاتينية وفقههما اللغوي، وذلك إلى جوار اللغة الفرنسية وأدبها وفقهها وفي الجامعة تلقي الدروس والمحاضرات التي تعد لكل من هذه الشهادات، ولك أن تحضر منها ما تريد، وتتقدم إلى الامتحان عند ما تحس أنك قد وصلت إلى المستوى المطلوب وهو مستوى رفيع جداً لا نصل إليه هوناً؛ حتى أن قليلاً جداً من الأجانب من يستطيع أن يجازف فينافس الفرنسيين في هذا الميدان العويص. وذلك لأن الفرنسيين لا يتقدمون إليه إلا بعد إعداد طويل بمدارسهم الثانوية حيث تلك اللغات جميعا دراسة متينة مفصلة. وكاتب هذا المقال يستطيع أن يتحدث عن يقين عن جدية هذه الدراسات وقد تقلمت فيها أظفاره. ولقد يدهش القارئ عندما نخبره أن الامتحان في شهادة الآداب الفرنسية شيء بالغ البساطة في صورته بالغ المشقة في جوهره. فالامتحان التحريري عبارة عن سؤال واحد تعالجه في أربع ساعات، فإذا نجحت تقدمت إلى الامتحان الشفوي أمام ثلاث لجأن: اثنتان منها لقراءة وشرح نصين أحدهما قديم والآخر حديث، وأمام اللجنة الثالثة تسأل في مسألة من نظريات الأدب أو مدارسه أو كتابه. وهم لا يتطلبون منك في التحريري أن تدل على تحصيل فحسب، بل لا بد أن تثبت إلى جانب ذلك مقدرة حقيقية على النقد الشخصي والفهم العميق. ثم لابد فوق كل شيء من أن تملك هبة الأسلوب وجماله، وذلك لإيمانهم أنه لابد أن تكون إلى حد ما أديباً لتصطلح مدرساً للأدب، وعندهم أن الأدب في المجالات التي لا يغنى فيها شيء عن مواهب النفس