ظن بعض الناس، وإن بعض الظنِّ إثم، أني بما كتبته عن المعهد الموسيقي الشرقي بدمشق وعن النهضة في الموشحات ولزوم إحياء موات موسيقانا القديمة أنني انبعثت أدعو الناس إلى تعلم هذه النوع من الفن البالي على زعمهم، والعزوف عن الحديث ولزوم مقاطعته، ولذا أخذوا ينعتونني بالرجعي الجامد. ودفعاً للالتباس أريد في كلمتي هذه أن أضع النقط على الخطوط التي تعتلج في ضميري لإحياء قديم هذه الفن والنهوض به فأقول:
ليست الموشحات وحدها هي التي تبعث الموسيقى من رقادها وجمودها، ولا الأدوار والقصائد الموقعة على الأوزان مثل التي كان ينشدها الشيخ أبو العلاء محمد أستاذ الآنسة أم كلثوم، ولا المنولجات الحديثة والأغاني الدارجة التي تسمى (طقاطيق) ولا المواويل والأغاني الشعبية الطاغية في هذا العصر، وإنما الذي ينهض بالفن الجمع بين هذه العناصر جميعها، فحفلة تقوم على نوع واحد ولون خاص من هذه الألوان والأنواع الفنية يكون مآلها الإخفاق والضجر والملل. ولا بد من التنويع، وعدم الاكتفاء بنوع واحد، فالآذان والأرواح تتغذى بالفن كما تتغذى الأبدان، والاقتصار على نوع واحد من أنواع الطعام يفسد المعدة ويدفعها إلى الملل والعزوف عن الأكل. ولقد كان الأقدمون يجعلون الموشحات في المقدمة من حفلات السمر والتلهي، ويليها الدور والقصيدة، والأغنية (الطقطوقة) والموال، وبهذا الترتيب والتنويع كانت تحصل النشوة والطرب وتدوم الحفلات لديهم من مغيب الشمس حتى مطلعها دون أن يعتري السامعين السامرين المغتبطين شئ من الإملال بعكس ما هي عليه حالنا اليوم. نكتفي بعرض قطعاتنا التجارية الرخيصة المبتذلة المخنثة نقلد فيها أبطال مطربي الأفلام السينمائية، فتارة نتغزل بالبنزين: يا أو تمبيل يا جميل ما أحلاك، وتارة بالقطار: يا وبور قل لي رايح على فين. . . وتارة وتارة. . . فلا ينتهي الهزيع الأول من الليل على السَمار حتى يأخذهم من الملل وضيق النفس التثاؤب ويرنق النوم على أجفانهم فيتركون الحفلات دون أن يتمموا المدة المخصصة لختامها.
وهذا ما دعانا إلى امتداح الموسيقى القديمة وطرق عرضها ولزوم إحياء مواتها لنعيد بها ليالي السلف، فنتذوق طعم هذا الفن كما كانوا يتذوقون، ونطرب له كما كانوا يطربون،