فأين ليالي اليوم من ليالي أمس في عهد الحمولي، والمنيلاوي، وسلامة حجازي، والبولاقي، والسفطي، وغيرهم من كبار فنانينا الأقدمين؟ وأين الأنس والطرب فيها من ليالينا القاتمة؟ فهذه تنتهي بأسرع وقت، وتلك كانت تدوم حتى مطلع الفجر فلا يعرف السامرون اللاهون كيف كانت تمرُّ لياليهم من شدة لهوهم وهيامهم. ولقد كانت تستغرق آه واحدة من آهات الحمولي كما روي لنا المعاصرون له ساعة كاملة على التحقيق وهو يكررها بمختلف الأنغام، وكل نغمة منها كانت تحدث في السامرين من الشجو أضعاف ما تحدثه سابقتها، ولذا خلده أمير الشعراء ساكن الجنان بقوله فيه:
يتمنى منه أخو الشجو آها ... حين يلحي تكون من أعذاره
يسمع الليل منه في الفجر يا ليل ... فيصغي مستمهلا في قراره
هكذا كانت ليالي الأقدمين، وهكذا كان سحر فنهم. أما ليالي اليوم فإنك لا تكاد تجلس لتسمع فيها إلى صوت مغنية أو مغن، حتى تخالك في مأتم تصغي فيه إلى أصوات النادبين والنادبات والنائحين والنائحات لفسولة غناء هذا العصر وبعده عن مواطن الطرب. . .
فجل الغناء العصري إن لم نقل كله من النوع الحزين الباكي الذي يقتل الشعور المشبوب والعواطف الفياضة. فإذا كنا نحن دعونا الناس فيما كتبناه إلى إحياء موات القديم فذلك لاعتقادنا أن الموشحات القديمة والأدوار تعد قواعد أساسية للفن الموسيقي كالنحو والصرف للتمكن من اللغة العربية، فإذا قدر لمثل صاحب قطعة (بلاش تبوسني بعينيَّ) ولمثل صاحبة قطعة (نامي ياملاكي) الخلود فلن يخلد إلا بالقطعات التي جاريا فيها الأقدمين، كقطعة (يا جارة الوادي) البياتية النغمة، وتلفتت ظبية الوادي، من نغمة الحجاز، وقطعة وحقك أنت المنى والطلب من نغمة السيكا، وقطعة سلوا قلبي، من نغمة الرصد. فهذه قطعات ذات نغمات شرقية جارى بها أصحابها الأقدمين وساروا باللحن على غرارهم؛ فيها وبلحنها لا بغيرها تخلد أسماؤهم وهذا ما حفز الآنسة أم كلثوم على الإيعاز لملحنيها أن يكثروا من تلحينهم لها القطعات ذات الأنغام العربية المعروفة المألوفة، فجددت بهذا شباب فنها الهرم ذي اللوثة الإفرنجية الدخيلة. أما الموشحات التي مرَّ معنا ذكرها في البحث السالف فليست كلها أندلسية، ومعظم المتداول منها الذي يُنشد في الحفلات ويُذاع على الناس من الموشحات التركية المستعربة، ودليلي على ذلك أنه لا يخلو موشح فيها من قولهم