لا شك في أن نحونا العربي أصبح علماً جافاً يورث النظر فيه السأم والملل. ولا يسعني مع هذا أن أنكر تلك الجهود الموفقة التي بذلها الأستاذ الجليل علي الجارم في تسهيل النحو وتجميله في كتاب (النحو الواضح) فصارت به دروس النحو الأولى سهلة مقبولة لدى الناشئين، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وتقرن العلم بالعمل قرنا موفقاً، ولكن نحونا العالي لا يزال في الحالة السيئة التي وصل إليها من يوم أن أخذ من أحضان علم الأدب الذي نشأ النحو في ظله، وترعرع في أرضه الخصبة.
وكان الإمام علي بن عيسى الرماني أول من انتزع النحو من حضنه بين الأدب وعلومه؛ وقد ولد الرماني سنة ٢٧٦ هـ وأخذ عن الزجاج، وابن السراج، وابن دريد، ثم برع في علم النحو حتى قال أبو حيان التوحيدي: لم ير مثله قط علما بالنحو، وغزارة بالكلام، وبصراً بالمقالات، واستخرجاً للعويص، وإيضاحا للمشكل، مع تأله وتنزه. ودين وفصاحة، وعفاف ونظافة، وكان يمزج النحو بالمنطق، حتى قال الفارسي إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان النحو ما نقوله نحن معه نحن فليس معه منه شيء - قلت: النحو ما يقوله الفارسي، ومتى عهد الناس أن النحو يمزج بالمنطق، وهذه مؤلفات الخليل وسيبويه ومعاصريهما ومن بعدهما بدهر، لم يعهد فيها شيء من ذلك
على أن النحو لم يزل يبعد عن الأدب بعد الرماني شيئا فشيئا، حتى أصبح العالم بالنحو لا يدري شيئا من الأدب، ولا يستطيع أن يقوم لسانه أو قلمه إذا نطق أو كتب، وحتى أصبحت بعض الشواهد النحوية تروى مغلوطة وتمضي عليها أزمان طويلة فلا يتنبه إلى غلطها، ولا يعرف مع هذا قائلها، وليس هذا إلا من فصل النحو عن الأدب، والعناية بحفظ قواعده ونكاتها الفلسفية، وإهمال صبغته الأدبية التي كانت تراعي في عهد ازدهاره.
وإني أسوق من ذلك هذا الشاهد الذي يذكر في باب التوكيد
لكنه شاقهُ أن قيل ذا رجَبٌ ... يا ليت عِدَّةَ حولٍ كلِّهِ رَجَبُ
برفع كلمة (رجب) في آخر البيت، فهذا الشاهد لا يعرفون قائله إلى الآن، وهم مخطئون في رفع كلمة (رجب) في آخر البيت لأنها من قصيدة رويها على النصب لا على الرفع.