وثبت الفلسفة في عهد الإغريق وثبة جريئة، كانت من غير شك شذوذا نابيا لا يستقيم مع طفولة العقل عندئذ، ولا يتفق مع سير الإنسانية الوئيد المتثاقل. وما ظنك بثلاثة من قادة الفكر وأفذاذهم البارزين الذين لا تزال فلسفتهم إلى هذا اليوم موضوعا للبحث والدرس، واغلب الظن أنها ستظل موضوعا للبحث والدرس إلى غد وبعد غد! ما ظنك بهؤلاء الجبابرة ينشرون تلك الفلسفة العالية وذلك الفكر الرفيع في أوساط من الناس يستحيل على عقولهم الفجة الساذجة أن تتسع لأشباهها، أو قل لا تدنو من عشر معشارها! ما ظنك بسقراط وأفلاطون وأرسطو، أولئك العباقرة الفحول ينتجون هذه الفلسفة في القرن الخامس قبل ميلاد المسيح، أي منذ خمسة وعشرين قرنا!
لم تسغها العقول وقتئذ، إذ لم تقو على هضمها وتمثيلها، فكان طبيعيا أن يكون نصيبها الطي والإهمال، حيث استقرت في بطون أسفارها قرونا وقرونا، تنتظر العقل الناضج الرشيد، تنتظر هذه الإنسانية المتلكئة في سيرها حتى تسمو وترتفع إلى حيث هي، وعندئذ تستطيع أن تنشر صفحاتها المطوية وتخرج إلى شمس كنزها الدفين.
ولكنها وقفت تنتظر حينا طويلا من الدهر حتى سئمت الانتظار! وحق لها أن تمل وتسأم، فقد أقبل الناس على عصر بل عصور، اصطلح المؤرخون على أن يطلقوا عليها اسم العصور الوسطى كانت مظلمة شديدة الظلام، تتخبط في ديجور من الجهل، لا يكاد ينفذ فيه قبس واحد من نور، كأنما أصاب الدهر سنة من النوم أو إغفاءة من السهو، فبدل في مواضع الأزمان، حيث قدم ما كان يجب أن يؤخر، وأخر ما يجب أن يقدم!! في تلك العصور سيطرت الكنيسة على العقول إلى أقصى حدود السيطرة، وحرمت على الناس كل ضرب من ضروب التفكير الحر الطليق، كما حضرت عليهم كل دراسة لا تمت إلى الدين بسبب وثيق. اسمع إلى البابا غريغوري الأكبر، رئيس الكنيسة الأعلى، كيف ينحو باللائمة المرة، والتقريع اللاذع، على رجل من رجال الدين، وشى به إليه انه يصرف شطرا من زمنه في قراءة الآداب القديمة فيقول: