للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(لقد وصل إلى علمنا ما نخجل لذكره، ذلك انك تدرس الآداب القديمة لأصدقائك فامتلأ قلبنا غضبا منك، وازدراء بك، وحسرة عليك، فان لسانا ينشد مديح المسيح، لا يستطيع أن يتغنى بالأدب القديم)

ولكن هيهات أن تصاب الإنسانية بالجمود دون أن تمضي في سبيلها قدما، لا تتقهقر خطوة إلا لكي تتحفز للوثوب الفسيح، فبالرغم من هذا الستار الصفيق الذي اسدلته الكنيسة في العصور الوسطى دون العقول، لتحول بينها وبين التفكير في مظاهر الوجود، فقد نفذ إلى النفوس بصيص من نور، فساورها القلق من هذا الاستسلام المطلق للكنيسة ورجالها. وهنا بدأ الشك يتسرب إلى العقيدة الراسخة شيئا فشيئا، حتى قال (ابيلار) في جرأة الثائر: (يجب إلا نؤمن بمذهب لأنه من عند الله، بل لأن الدليل العقلي قائم على صحته. فان الشك يدعونا إلى البحث، والبحث يوصلنا إلى العلم الصحيح)

ثارت النفوس إذن ثورة عنيفة هدامة، وتناولت بالتحطيم تلك الأغلال الثقيلة التي فرضتها عليهم الكنيسة فرضا؛ والتي كبلت عقولهم حينا طويلا، فحبست عنها الحياة والنور: وكانت فورة الغضب حامية جارفة، اكتسحت أمامها الحدود والسدود، وقوضت العقائد المتأصلة في النفوس، وزلزلت بمعول الشك تلك الآراء التي بلغ يقينها درجة تدنو من التقديس. كانت العصور الوسطى تفرض على ساكنيها التسليم بكل شئ، فجاءت هذه النهضة الفكرية تحتم الشك في كل شئ::

ولم يكن ذلك الشك هداما وكفى، لم يكن يريد أن يقوض البناء، ثم يهمل أنقاضه مركومة بغير تشييد، كلا بل أراد أن يهدم باطلا ليقيم صرح الحق قويا متينا. ذلك ما قصدت إليه الفلسفة في فجر العصر الحديث، ولكن أين عساها أن تجد اللبنات التي تقيم بها ذاك الحصن الجديد؟ أتلتمس ذلك في فلسفة العصور القديمة، أم تلتمسه في فلسفة العصور الوسطى؟ لقد مزجت بينهما جميعا، وكان لها من هذا المزيج ما تريد. فقد كان القدماء ينشدون الحكمة الفلسفية، أو أن شئت فسمها حكمة دنيوية، وكان أهل العصور الوسطى يبحثون عن الحكمة اللاهوتية، فجاءت الفلسفة الحديثة واعترفت بالمطلبين، ثم ألفت بينهما، واتخذت منهما غرضا واحدا. فكان لابد لها أن تأخذ بالحياتين الأولى والآخرة في وقت معا. لابد لها أن تميل بأسرها نحو هذه الحياة الواقعة، وأن تتجه بكليتها نحو الغريب

<<  <  ج:
ص:  >  >>