للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

المرقوب على السواء.

فقد كانت الوثنية الأولى تعتد بالعالم الكائن فحسب، وكانت مسيحية العصور الوسطى تعنى بالعالم الآخر فحسب، ثم تبع ذلك مرحلة انتقال ظهرت فيها النزعتان جنبا إلى جنب: النزعة الوثنية المطبوعة بالطابع الدنيوي، والنزعة الدينية الزاهدة في الحياة الدنيا، ثم جاء العصر الحديث فكان ما أسلفنا من تآلف بين الوجهتين،، وجمع كل رجل في نفسه كلا الجانبين. وذلك إنما يكون بأن نخلق من روحك عالما تعيش فيه عيشة مطمئنة راضية، لا تقف عند الحياة الدنيا محصورا في حقائقها المحسة الضيقة، وكذلك لا تقصر نفسك على الحياة الروحية، فتمر عليك الحياة، أو على الأصح تمر أنت على الحياة، دون أن تشق عبابها وتخترق غمارها. لا تنصرف بالأولى عن الآخرة، ولا تصدفنك الآخرة عن الأولى. لا تعن بالجسد وتهمل الروح، ولا تعن بالروح وتزدري الجسد، بل أجمع بينهما في وحدة متآخية، وأنا أظن أن ذلك ما يدعو إليه الإسلام في الحديث النبوي الشريف: أعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، وأعمل لأخرتك كأنك تموت غدا. . . مزج بين الروح والمادة، بين الدين والدنيا.

نعم ينبغي ألا تكون ماديا فتنكر هذه القوة التي يفيض بها الوجود، كما يجب ألا تكون صوفيا زاهدا، يزوّر عن هذه المادة التي تملأ جوانب الكون. ولتكن (أيها الإنسان) موضعا يتصافح عنده الطرفان المتخاصمان، ونقطة يلتقي لديها الشطران النقيضان. . . ألست تريد أن تمجد الطبيعة المادية إلى أقصى حدود التمجيد، مفتونا بدقائقها المتناغمة؟ ثم ألا تريد أن تكون مع ذلك لاهوتيا يعبد الروح الأعلى الذي يستغرق الوجود بقوته؟ أو بعبارة جلية موجزة، ألا تريد أن تسرح فكرك في الطبيعة وما فوق الطبيعة على السواء؟ أذن فأبحث الإنسان: تناول الإنسان بالتحليل والدرس، فهو جماع الحكمتين، وملتقى الجانبين. التمس عنده الطبيعة المادية في أدق ترتيب وأحكم تصوير، والقوة الروحية في أروع مظاهرها وأسمى مجاليها. أنه الإنسان الذي أنزله الله في الأرض، ليكون لسانا ناطقا بحكمته، وترجمانا يفصح عن قوته، ورسولا أمينا يصل ما بين الله والعالم المادي، وأذن فقد بات طريق الفلسفة واضحا معبدا. . . فإذا أرادت الحق، فلتبدأ سيرها من النفس، نفس الإنسان، ثم تسلك سبيلها، راسخة القدم موطدة اليقين، حتى يصل بها البحث إلى معرفة الله والعالم

<<  <  ج:
ص:  >  >>