أبداً يظل الترام لمنظاري موضع فرجة لا تنعد، وذلك أنه من ناحية، ملتقى ضيق يحشر فيه كل ساعة أنماط من الناس في هذا المضطرب الواسع الذي ندعوه المجتمع، ثم هو من ناحية أخرى المركب الوحيد الذي أتخذه في ذهابي إلى مقر عملي وفي أوبتي من هناك، فما كان لي وقد ضممت الفخر من أطرافه كما يقول مهيار وجمعت بين الحسنيين: وظيفة التدريس وحرفة الأدب، أن يكون لي سيارة، وبحسبي أن أركب كل شهر أو شهرين مع صديق في سيارته أو أن أزحم الناس لأتخذ لي موضعاً بشق النفس في سيارة عامة هي والترام شيء واحد!
كان الترام الجاهد بما يحمل من الخلق يجري جري من تقطعت أنفاسه ذات صباح، وكان بيني وبين موعد الدرس الأول دقائق معدودات، وكنت لا أفتأ أنظر إلى ساعتي وإني لضائق بسرعة عقربها بقدر ما أنا ضائق ببطء الترام أخشى أن أتأخر فلا أدري بماذا أعتذر لتلاميذي ولا كيف أخفي عنهم خجلي. دع عنك (البك الناظر) ونظراته على رأس السلم وغيظه المكظوم الذي لا آمن أن يظل مكظوماً. . .
وظللت أدعو الله ألا تفسد الزمارة أو تخرج (السنجة) عن خيوط الكهرباء، أو تتدلى عجوز لتنزل فتزل قدمها، أو يمر رتل من سيارات الجيش فيقف المرور، أو يدفع القدر أحد الناس إلى حيث يلتهمه الترام. وقضيت لحظة أليمة على هذه الحال أسأل الله وأستعجل الكمساري وأرهف أذني إلى زمارته وأتلفت نحوه كلما أبطأ في النفخ فيها.
وأبطأ الكمساري، والتفتت فإذا شاب (أفندي) يقف على سلم المركبة والكمساري يرجوه ويتوسل إليه أن ينزل، فلا يجود عليه ولو بنظرة؛ ويغلظ له الكمساري شيئاً فشيئاً، ولكنه يظل ثبت الجنان منتصب القامة مرفوع الهامة؛ وأنظر وقد كاد يخنقني الغيظ، وينظر الراكبون جميعاً نحو ذلك الأفندي عسى أن يستحي، فلا يشاء أن يرد أو يلتفت إلى أحد، ويعود الكمساري فيلين ويستعطف مبتسماً ابتسامة فيها معنى ذلك الصفاء الذي يسبق العاصفة ويذِّكر الأفندي بأن منع الوقوف على السلم قد بات أمراً معلوماً لكل الناس، ولا حيلة له في ذلك فهي مشيئة المصلحة والحكومة وعليه وحده الغرم إن تهاون. . . ثم إنه