للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الأدب والفن في أسبوع]

للأستاذ عباس خضر

فقيدنا الشاعر علي محمود طه:

ما كدنا نستبشر بإبلال صديقنا الشاعر الكبير علي محمود طه حتى فوجئنا وفجعنا بفقده. حسبنا أن الأقدار قد خففت عنا ما أصابنا من الهم لمرضه، وأنا سنسعد بسلامته واستئناف صحبته، فإذا هي تصب علينا نعيه فتغرقنا في الهم والأسى، وإذا نحن نلقاه مسجى في نعشه، في اليوم الذي قدرناه للفرح برؤيته بعد مبارحة المستشفى، فياله من لقاء!

قضينا هذه الأيام، وما نزال، في غمرة الأسى، لا نستطيع غير الوجوم الحزين، فما لقيت أحدا من إخواننا الأدباء حتى ذكرنا الفقيد العزيز وتبادلنا النظرات المفصحة عما يعلو الوجوه من الكآبة، نلوذ بالصمت خشية التهدج، ونختلس مسح العبرة، لإظهار التجلد، وإيثار التجمل.

كان لعلي محمود طه شخصية واضحة جذابة، وكان وضوحها ينم على ما فيها من طيب وصفاء. ويخيل إلي أنه ترك كل من عرفهم أصدقاء، فلا يملك من يعرفه إلا أن يحبه، فقد كان إنسانا نقيا مما يشوب الإنسانية الصافية؛ كان مرحا طروبا، أقبل على الحياة بنفس مبسوطة لا تعقيد فيها، فراح يستشعر ما فيها من جمال، بحس الشاعر المرهف، يعب من مواردها ما يحيله إلىفن جميل، ويرتاد آفاق الحسن في الشرق والغرب، ثم يصوغه شعراً خالداً ولحنا يتغنى به الزمان. لم ينغصه غير العلة التي عصفت به وهو يغرد على أفنان هذه الحياة ليجعلها متاعا وبهجة لمن يصغي إليه، ولكن طبيعتها القاسية غلبته على أمره، فصار الأمر من بعده لوعة وحسرة بعد المتاع والبهجة.

كان على محمود طه حلقة في سلسلة تطور الشعر العربي الحديث، تتميز بالأصالة المبينة، وأعني بكل كلمة من هاتين الكلمتين معناها الواسع؛ فقد كان أصيل الشاعرية، لوى شعره عن التقليد والترديد، وقصد إلىمشاعره وخواطره لا يحرص على شيء قدر ما يحرص على أدائها وإبرازها؛ وكانت إبانته تتمثل في حسن تأتيه وبعده عن الخيال المجدب وعن الإيغال في الأجواء التي لا يأتي الموغل فيها بشيء، فكان حذواً بين المدرسة القديمة الجامدة والمدرسة الحديثة المضطربة، أو قل أنه كان يمثل المدرسة الحديثة كما ينبغي أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>