لا جدال أن بضاعة القلم هي البضاعة التي تصدر خاماً من منجم الدماغ الإنساني، وتتحول إلى مصنع الحافظة للقيام بمهمة فرزها وضروب حياكتها. وما مصنع الحافظة سوى مستودع يعج بمفردات اللغة وشواردها، ومسبك يصب ألفاظها وتعابيرها. والملهمون وحدهم يحسنون خلق هذه البضاعة وإبداع نسجها، لأنها فريدة صعبة المراس، تقدر بالجودة لا بالكثرة.
فكم فص من الماس لا يساويه ألف فص، وكم قلادة من قلائد اليراع لا يعادلها ألف قلادة. فالثرثرة إذاً ليست أدباً، وحوشي اللفظ ليس بياناً، وانتحال أفكار الغير لا يعد نتاجاً، واجترار أقوالهم لا يعتبر فناً. إنما الأدب والبيان والفن نتاج يرتكز على دعائم الابتكار في المعنى، والبلاغة في المبني، والجزالة في الأسلوب، والإيجاز في التعبير
أما الابتكار في المعنى وهو بيت القصيد، فلا يبدعه غير الموهوبين. والموهوبون أنفسهم لا ينتجونه طريقاً إذا لم يستثمروا مناجم أدمغتهم، ويغرزوا في أعماق تلافيفها ومطاوي أغوارها معاول تفكيرهم ومهاميز جهادهم ليكشفوا عن مستغلق أرواحهم، وعن كل ما تلبد في مستودع أذهانهم، وتستر في مكنون طباعهم وخفايا غرائزهم. وأدباء العربية أحوج الأمم في هذا العصر إلى استغلال مناجم أدمغتهم. فهي ما تزال بكراً لم يستثمر منها غير اليسير الذي لا يروي غلة ولا يبل ظمأ
ومن العار أن تظل حياتنا الأدبية والعلمية مقصورة على معارف الجدود، أو مستمدة من نتاج أدمغة الغربيين نأخذ منهم ولا نعطيهم، ونتمتع بمستحدثاتهم العلمية وروائعهم الأدبية والفنية، ولا نبادلهم علماً يستحق الذكر، أو أدباً جديراً بالتقدير، أو فناً خليقاً بالإعجاب
إن العاجز يمثل دور الطفيلي ويعيش عيلاً على غيره. أما نحن فلسنا بالعاجزين. نحن أبناء أمة عريقة، لنا من ماضيها الزاخر بغرر الفكر، ومن تاريخها الحافل بجليل المآثر، ما يؤهلنا لمماشاة أرقى الأمم حضارة وعلماً، وما يذكي فينا روح المساهمة الواجبة علينا إزاء العالم، في حلبة الإبداع والتجدد.
وليس يعوزنا غير التضلع في العلوم والفنون والصناعات، والاطلاع على طارفها وتالدها،