للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[من حديث الشعر]

الكتاب الثاني

صديقي العزيز. . .

رأيتني أزدرى الشعر وأصف الشعراء بالجهل والسذاجة. فأحفظك هذا الوصف، وغاظك هذا الازدراء. فهببت تذود عن الشعر والشعراء. ولكنك لم تسلك في هذا الدفاع طريقا سواء، وإنما التوت بك السبل فخلطت وأفسدت الأمر على نفسك وعلى الشعر والشعراء، ذلك أنك قد زعمت أن الشعر متنوع مختلف. منه ما يعتمد على الواقع، ومنه ما يعتمد على الخيال، ومنه ما يعتمد على الواقع والخيال جميعها، وأنك أنت لا تؤثر هذا الشعر الذي يسترسل فيه صاحبه مع الخيال، ويسرف في ذلك فيتورط في المبالغات وألوان الغلو، وإنما تؤثر هذا الشعر الذي لاحظ فيه للخيال ولا الاختراع، وإنما هو وصف صادق مطابق للحق الواقع، وأن مذهبك في ذلك مذهب العرب الأوائل الذين قال قائلهم:

وإن احسن بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا

وإذن فأنا مسرف مبالغ حين أزعم أن الشعر جهل وسذاجة لأنه يعتمد على الخيال ولا يعنى بالحقائق، وأين يقع شعر أبي العلاء من الخيال؟ بل أين تقع حكم المتنبي وحكم أبي تمام من الخيال؟ وعلى هذا النحو مضيت في دفاعك عن الشعر والشعراء، فأفسدت الأمر - كما قلنا - على نفسك وعلى الشعر والشعراء. ذلك أن ما تسميه شعرا يعتمد على الحق الواقع ليس من الشعر في شيء، وإنما هو من النظم في كل شيء. . وإذن فمن الخير لي ولك أن نتفق على تعريف الشعر حتى لا أسمي نظما ما تسميه شعرا، ولا تسمي شعرا ما اسميه نظما.

وأنا حين أعرض لتعريف الشعر لا أحب أن أتحذق وأتكلف، وأضع لك جملا غريبة كأنني أحدد أصلا من أصول الفلسفة العليا، أو كأني استنزل وحيا من السماء، ولست في الوقت نفسه أريد أن أخترع أو أن أبتكر، وإنما أريد أن آخذ الأشياء كما هي، وأتمثلها كما يتمثلها المستنيرون من الناس. وأظنك معي في أن الشعر والنظم كلاهما كلام موزون مقفي، ولكن الشعر يمتاز عن النظم أنه يصدر عن الشاعر كما يصدر التغريد عن الطائر الغرد، وكما ينبعث العرف من الزهرة الأرجة، وكما ينبثق الضوء من الشمس المضيئة، فتأثير الإرادة

<<  <  ج:
ص:  >  >>